مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

فنون

الرسم والسياسة في أعمال ماندي الصايغ

جولة داخل محترف الفنانة الفلسطينية الأصل، التي "تتعامل مع عناصر الجرح في التجربة الإنسانية"

ماندي الصايغ © أليكس لوكِتماندي الصايغ © أليكس لوكِت

"سيروا براحتكم"، تقول الفنانة ماندي الصايغ، مشيرةً إلى ما تناثر على أرضية الدور العلوي في مصنع سابق للزجاج في جنوب لندن، غُطيت جدرانه وأرضياته بطبقات من القماش والنسيج والورق، الواحدة فوق الأخرى. يتجمّع الطلاء الأحمر في أحواض توحي بنيات مبيتة شريرة، وفي كل مكان، ثمة نصوص مقتطفة طُبعت على شاشات من النسيج، يبرز فيها عنوان "تحرّش جنسي" بالأحمر، فيما يلفت نص "نسيم البحر" الانتباه بلون تسمّيه الصايغ "الأخضر المؤسسي". تضيف: "لا يمكنني العمل إلا في محيط تعمّه الفوضى، فالمحترف يشبه حقاً دماغاً كبيراً".

حين التقينا، كانت الصايغ تستعدّ لتقديم عرضها في Thaddaeus Ropac في لندن. تقول: "أحبّ أن أحضر المحترف كله إلى صالة العرض"، متحدّثةً عن تجهيزاتها الكثيرة التي تتميز في العادة بجدران وأرضيات منسّقة ككولاج. تضيف: "لا أدرك فعلاً [ما سأفعله] حتى يقترب زمن العرض، فأنا أهوى العمل بشكل حدسي". إنه عام مميز بالنسبة إلى الفنانة بعد ظهورها أول مرة في صالة Chisenhale للعرض في عام 2019. وهذا معرضها المنفرد الثالث في عام 2023، بعد معرضها في Lehmann Maupin بنيويورك في نيسان (أبريل) الماضي، وآخر في زيوريخ بالتعاون مع Tichy Ocean Foundation، يستمرّ حتى تشرين الثاني (نوفمبر). وفي آب (أغسطس)، افتتحت معرضاً آخر في لندن، متعاونة فيه مع الفنان الفرنسي الجزائري قادر عطية.

الفنانة تعمل بالطلاء الأحمر © أليكس لوكِت
عمل للفنانة بعنوان Prodrome Anatomy © أليكس لوكِت

كانت ترتدي ملابس سوداء: بلوزة صديرية وسروالاً للجري ملطخاً بالطلاء وشبشباً أسود ناعماً، وكان شعرها الطويل كشعر حورية بحر أبعدته عن وجهها. محترفها الذي يمثل حلقة وصل بين ممارستها الرسم والتجهيز والأداء، يقع بين غرفة نومها والمكتبة، وهذه الأخيرة "أرشيف فوضوي" مزدحم بالإلهام من الأرض إلى السقف، ابتداءً بصفحات كتب التشريح وانتهاءً بنسخ من صحيفة Financial Times التي تحبها بسبب "لونها اللحمي".

تشرح: "لا أرمي شيئاً. الأمر أشبه بالتخزين أكثر منه بالتجميع". تُجمع الموادُ، أو "النِّتَفُ"، في عملية تصفها بأنها "تشبه الجراحة"، تنتج منها مجموعات كثيفة تلصق أو تطبع على شاشات ترسم وتطلى، إلى جانبها رموز أو أشكال مجرّدة.

ولدت هذه الفنانة البالغة من العمر 38 عاماً في سيلانغور بماليزيا. تقول: "أمي صينية ماليزية ووالدي فلسطيني، انتقلا إلى هنا عندما كنت بعد في السادسة، لذلك أنا لندنية إلى حدّ كبير". كانت والدتها قابلة قانونية، وكان والدها خطاطاً عمل في إصلاح الحواسيب، وهي تستخدم الكثير من آثاره الفنية بالخط في عملها.

الصايغ مكنبة على إنجاز عمل في محترفها
© أليكس لوكِت (4)

بعد تخرّجها في الكلية الملكية للفنون في عام 2011 حاملةً درجة ماجستير في الرسم، عملت الصايغ خمسة أعوام في رعاية شباب مصابين بالتوحّد غير اللفظي. تقول: "بسبب خفض الإنفاق الحكومي، صار الوضع محزناً حقاً، ولا سيما بالنسبة إلى من يستفيدون من هذه الرعاية. لكن [هذا العمل] لم يكن يلائمني أيضاً، وتبيّن لي ذلك حين أدركت أنني لا أفلح إلا في عملي هذا". تدمج آثارها الفنية بين الخفي والدقيق، بين الشخصي والسياسي، كما تتلاعب بازدواجية المعنى. تقول الصايغ: "يستطيع المرء أن يقرأ [عملي] نظرياً، وأن يجمع تفاصيل قصتي، أو يمكنه النظر إليه بوصفه لوحة مجرّدة". تضيف: "أعتقد أن لوجودي هنا معنى سياسياً، خصوصاً أن والدي فلسطيني".

أعتقد أن لوجودي هنا معنى سياسياً، خصوصاً أن والدي فلسطيني"

تضيف الصايغ: "بغض النظر عن مقدار شفافيتي، ثمة عنصر غامض في عملي". مع ذلك، تراها سعيدةً حين تفشي أسرار الفكرة التي أنتجت زخارفها المتكرّرة. فعلى سبيل المثال، تبدو الشبكة التي يتكرّر رسمها يدوياً في لوحاتها "طريقةً لربط الكل في بوتقة واحدة، حتى لا يفيض. وهذه أيضاً فكرة قوية". في الوقت نفسه، النص المتكرّر "نسيم البحر" واحدٌ ضمن سلسلة من الأسماء الرمزية لعملية عسكرية، في إشارة محدّدة إلى غارة إسرائيلية استهدفت ست سفن مدنية تتبع "أسطول الحرية" الذي كان متوجّهاً لفك الحصار عن غزة في عام 2010.

بالنسبة إلى جوليا بايتون - جونز، القيّمة الفنية وكبيرة المديرين العالميين في Thaddaeus Ropac، فإن "بناء المراجع كلها – تاريخها الشخصي وتاريخ الفن والعالم من حولنا – رائع جداً". وهي تسلّط الضوء على الطريقة التي تشبه بها ألوان الرسم لدى الصايغ في كثير من الأحيان جروح الجسد، فهي "تتعامل مع عناصر الجرح في التجربة الإنسانية".

الفنانة داخل محترفها جنوب لندن © أليكس لوكِت
"لا يمكنني العمل إلا في محيط تعمّه الفوضى"، تقول الصايغ © أليكس لوكِت

عودة إلى محترفها، تلتقط الصايغ مجلة طبية من الأرض. تقول: "هذه صورة كنت أحدّق فيها أمس. إنها جرح في العين، لكنّ ألوانها جميلة جداً. ولها تأثير مهدّئ بشكل غريب. إنها أقل إثارة للقلق من تهديد مجرّد". بين رفوفها هناك أيضاً جرار فيها أجزاء حيوانية حفظتها هي وشريكتها السابقة الملحّنة والفنانة ليلي أوكس، التي تواصل التعاون معها، في محلول فورمالديهايد. تقول: "إنها تركز طاقة المرء لأنه يجب أن يكون دقيقاً جداً. لكنني لم أعد أفعل ذلك الآن".

أصابها انهيار في عام 2020. تقول: "ما استطعت التوقّف عن الجري. لذلك، عجزت عن الجلوس والرسم. يتعلّق عملي كله بانهيار الأنظمة وإعادة بناء الشكل، وأعتقد أن هذا حدث لي في جسدي وفي نفسي". من هذه التجربة، ولد فيها فن جديد: الأداء. فقد أدّت الصايغ عملها الفني Your words will be used against you (ستستخدم كلماتك ضدك) في برنامج Frieze 2020 Live. دار هذا الأداء حول مفهوم المرآة، وقد برزت فيه إلى جانب مجموعة من الراقصين بينهم المتعاونة المستمرّة معها أليثيا أنطونيا، على أنغام ألّفتها أوكس. "كان ذلك طرداً للأرواح الشريرة"، تقول، ببساطة.

يكون المرء سعيداً جداً لأن هذه هي حياته، لكنها لا تتوقف، أليس كذلك؟"

حمل برنامجها في Tichy Ocean Foundation عنوان In  Session: إنه تجهيز مستوحى من غرفة سيغموند فرويد للمعاينة، مع فساتين وخزائن وأريكة للفحص عتيقة إلى جانب لوحات عدة. في الوقت نفسه، يتضمّن عملاً صوتياً هو تسجيل لإحدى جلسات التحليل النفسي الخاصة بالصايغ. في صالة العرض Thaddaeus Ropac، تمثل غرفة المعاينة لدى فرويد نقطة انطلاق نحو "غرفة حمراء غنية"، كما تقول، مضيفة: "ستبدو مثل محترفي الخاص، مميزة بطبقات عدة، وبلوحات معلّقة وسجاد على الأرض... أريد توليد شعور نفسي قمعي، وفكرة أن أكون في داخل رأسي".

عرض Interiors في Thaddaeus Ropac هو الثالث الذي تقيمه الصايغ هذه السنة © أليكس لوكِت

في الآونة الأخيرة، كانت تفكّر كثيراً في المال، في كيف "يشبه الرسم طباعة النقود" (بيعت لوحتها Net-Grid في مقابل 75,600£ لدى Phillips في العام الماضي)، وهذا يتجلى في لوحاتها متّخذاً شكل أموال مجمعة وأوراق نقدية مطبوعة على شاشة.

صرت مثل البورجوازيين الآن... أقصد معالجاً نفسياً وذهبت إلى مدرسة للفنون"

عن نجاحاتها المتزايدة، تقول: "تجعلني مذعورة جداً. فكّرت في تغيير اسمي إلى ماندي وونغ، تيمّناً باسم أمي". لكن، "يبدو مفيداً جداً تحقيق مستوى ما من المرئية استناداً إلى ما كافح والداي من أجله للوصول بنا [ثلاثة أطفال] إلى هنا... إن نظرت إلى الفقر المدقع الذي عاشته عائلة أمي، فأنا مثل البرجوازيين الآن"، تضحك، وتضيف: "لي مكان [خاص بي]. أقصد معالجاً نفسياً. وقد ذهبت إلى مدرسة للفنون".

حين أسألها عمّا تفعله خارج صنعة الفن، تقول الصايغ: "يا إلهي، يجب أن أذهب الآن إلى معالجي النفسي! في آخر مرة توقّفت عن ممارسة الفن، لم يكن الأمر جيداً. لا أفعل شيئاً آخر. إنها نعمة ونقمة. يكون المرء سعيداً جداً لأن هذه هي حياته، لكنها لا تتوقف، أليس كذلك؟ فالعمل هو المرء نفسه".

قُدِّم عرض Interiors في Thaddaeus Ropac في لندن بين الأول والثلاثين من أيلول (سبتمبر)، تخلّله أداء الصايغ Akathisia في 12 أيلول (سبتمبر)، ropac.net. كذلك، تعرض الصايغ أعمالاً بشكل ثنائي مع قادر عطية في Lehmann Maupinفي لندن، ويستمر حتى الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2023

0 تعليقات

شارك برأيك