أتحدّر من عائلة لبنانية عاشت خارج البلاد بسبب الحرب الأهلية، ثم عادت إلى الوطن في عام 1992، بعدما وضعت تلك الحرب أوزارها بوقت قصير. وبعد نحو 10 أعوام، اشترت أمي عقاراً في بلدة البترون على الساحل الشمالي اللبناني، وكانت البلدة هادئة آنذاك. منذ جرّبت أمي الإقامة في بيوت الضيافة في المملكة المتحدة وتناول الفطور فيها، تتمسّك بحلم إقامة استراحة خاصة بها. افتُتِح Beit al Batroun (بيت البترون) في عام 2013 وكان يضمّ حينها ثلاث غرف فقط، أما اليوم فيتألّف من خمس غرف. منذ ذلك الحين، تضاعف عدد الاستراحات في لبنان، وسمّى عدد كبير منها نفسه "بيتاً"، إلا أن أمي هي من بدأت هذه الموجة فعلياً.
اليوم، إن عدت إلى وطني لأزور عائلتي شتاءً، تكون بيروت وجهتي، أما في باقي أوقات السنة، فإلى البترون. متى تدخل ذلك المكان الذي أقامته أمي، تشعر بأنك حللت أهلاً ووطئت سهلاً، فهذا البيت مشيّد على الطراز اللبناني التقليدي محوره ليوان، وهو فضاء مفتوح أمامه رواقان. أمي مضيفة اجتماعية، وكثيراً ما نشارك ضيوفنا شرابهم في ردهات مشتركة، لذلك يلتقي الضيف أشخاصاً جدداً في كل يوم. ما إن أصل إلى هناك حتى أنعم بشعور فوري بالسلام التام، على الرغم من أن البترون بلدة صاخبة جداً الآن، إذ بدأت باللحاق بمدينة جبيل، جارتها إلى الجنوب منها قليلاً.
ترتادون هذا المطعم بملابس السباحة، إذ إن بعضاً من طاولاته موضوع في ماء البحر، فيغمركم الماء إلى الركبتين حين تجلسون
صارت زيارة البترون واجبةً على الرغم من الإرهاق الذي يصيب البلاد بسبب الأزمة الماليَّة التي تعصف بها. إنها خضراء، تتميز بكثير من العمارة المشرقية؛ بيوت مجدّدة بشكل جميل لها واجهات حجرية وشبابيك مطلية وشرفات تحيط بها أزهار حمراء وزهرية زاهية. أعتقد أن الناس بحاجة هنا إلى ملاذ يهربون إليه. عندما يصل المرء إلى هذا المكان، يظن أن لبنان بألف خير، فالمطاعم والحانات ونوادي الشاطئ مزدحمة بالروّاد. اللبنانيون معروفون بصمودهم وتمسّكهم بالحياة، نمضي فيها قدماً على الرغم من أن العالم حولنا ينهار.
صباحاً، أقصد شاطئ White Beach، وهو نفسه الذي أرتاده منذ 10 أعوام. إنه بسيط حقاً، مكسوّ بالحصى وعليه كراسٍ بلاستيكية للتشمس، ومطعمه في مبنى خرساني بسيط. سهل حقاً الوصول إلى البحر، تتجاوز القليل من الرمل ثم تغوص في مياه زرقاء عميقة ونقيّة. يملك أشقّاء هذا المطعم ويديرونه، فيقدّمون فيه الأسماك الطازجة بأسلوب خدمة رائع. إن وصلتُ إلى هناك قبل 11 صباحاً، أطلب فنجان قهوة تركية، وإن وصلتُ بعدها، أطلب زجاجة بيرة Almaza، وهي الجعة اللبنانية التقليدية، أو جعة Colonel المخمّرة محلياً في البترون. وهاكم الروتين اليومي: تحصلون على مائدة صغيرة وتُقدَّم إليكم البيرة إلى جانب جزر مقطّع في عصير الليمون، إلى جانب وجبتي الخفيفة المفضلة، الترمس، وهو طبق صغير من حبوب الترمس تقدم بعد نقعها في الماء ورشّها بالملح. أجلس هناك تحت الشمس الحارقة، لا شيء أمامي إلا البحر الأزرق الواسع وصوت الموج. تمرّ ساعتان فأرمي خلفي الإجهاد كله. وهذا يعدّني لباقي أجزاء رحلتي.


لا يمكنكم زيارة البترون من دون ارتياد مطعم Jammal، شرط أن تحجزوا فيه مقدماً إذ يحظى بشعبية واسعة. أقيم هذا المطعم في خليج صغير خاص به على الواجهة البحرية مباشرة. ترتادونه في ملابس السباحة إذ إن بعضاً من الطاولات موضوع في ماء البحر، فتجلسون فيها لتتناولوا سمكاً طازجاً فيما يغمركم الماء إلى الركبتين. تناولنا الأطباق المعتادة في هذا العام، ابتداءً بكبيس الملفوف – أوراق الملفوف المخلّلة المحشوّة بالمكسرات – وسمك الغبر المشويّ والراهب، وهذا طبق من الباذنجان المشويّ على الفحم. أما الحلوى فهي التمرية الشهية، وهذه معجّنات على شكل لفائف تُحشى بحشوة لذيذة قشدية مصنوعة بالسميد ومقلية، ثم يُرذّ عليها السكر.

وجبة الغداء متاحةٌ على طول ما يسمّى "La Route des Vins" أو طريق النبيذ، حيث المشهد الجبليّ المحيط بالبترون حافل بمصانع النبيذ التي تقدّم لضيفها خدمة التذوّق، وكثير منها يقدّم الطعام أيضاً. المفضّل عندي هو Ixsir المميز بموقعه الجميل، وAtibaia الذي يتموّن زوج خالتي نبيذه منه عندما يأتي إلى لبنان، مؤكداً، وهو من محبي النبيذ الجادين، أنَّ نبيذ هذا المصنع واحد من أفضل ما تذوّق. ثمة مصنع مفضّل عندي يتطلّب أن أقود السيارة عالياً جداً في الجبال، يطلق عليه اسم Sept، ويديره زوجان شابان أنشآ La Table de Sept، مطعم صغير يقدّم الغداء ويطلّ على مناظر خلابة. يعلو نحو 950 متراً عن سطح البحر، فتشعرون أنكم تجلسون على قمة العالم. عدد الطاولات فيه محدود، وهذا يجعله حميماً جداً، كأنه نوع من table d'hôte مميز بقائمة طعام محدّدة، ترافقها قائمة من النبيذ الخاص.
العرق هو الكحول اللبناني التقليدي بنكهة اليانسون، أشتريه دائماً حين أكون في وطني. يصنع Coteaux de Botrys عرقاً لذيذاً يسمّى Arak Kfifane. أحصل على توابلي من Batrounyat، أو من أحد الخبازين والبقالين الحرفيين الذين تجدونهم في الطرق المتعرّجة المرصوفة بالحصى في البلدة القديمة. ويمكنني أن أصنع منقوشتي، وهي فطور لبناني تقليدي يحضّر بخبز عجينة عليها خليط الزعتر والأوريغانو والسمسم. إن خلطتم الزعتر مع الكثير من زيت الزيتون، تحصلوا على طعم لبنان.

لغذاء الروح والعقل، أقصد طريق راشانا الجبلي لمشاهدة أعمال النحّات أناشار بصبوص الذي بنى متحفاً لأعماله. يمكنكم ملاحظة تماثيله من الطريق أيضاً، فهي جزء من المشهد العام. على مريدي المعمارة قيادة السيارة نصف ساعة شمالاً إلى أطراف مدينة طرابلس لمشاهدة Rachid Karami International Fair الذي صمّمه أوسكار نايمير، لكنه بقي غير مكتمل في عام 1975 بسبب الحرب الأهلية. مفترض أن يكون مغلقاً أمام الجمهور، لكنّ المسؤولين عنه يسمحون للسياح الفضوليين بالدخول إلى ذلك العقار الشاسع بحدائقه المترامية الأطراف وهياكله المعمارية غير المكتملة. إنها آثار حديثة جميلة.
أحبّ أن أنهي يومي بتناول الشراب عند المغيب في Bolero. أجلس عند طاولة منخفضة وأمامي كوكتيل بنكهة إكليل الجبل، وأشاهد غروب الشمس فوق البحر. في آخر مرة قصدت ذلك المكان، كانت السماء مزيّنة بألوان مجنونة من الزهري الزاهي إلى الشاحب، إضافة إلى ألوان زرقاء فيروزية. تلتقطون صوراً كثيرة، لكن هذه الصور تعجز عن رصد حقيقة المشهد الجميل.