بعبارة صريحة، لا أحبّ بلداً أوروبياً مثلما أحبّ إسبانيا. لا أظنّ أن لي جذوراً أندلسيَّة، لكن! حين بحثت عن تمثيل حيّ لمقولة "مدينة تغسل قدميها في مياه المحيط"، فما ابتعدت كثيراً. ها هي مدينة سان سيباستيان تستحمّ كلها في مياه الأطلسي، على مدار الساعة.
ما أهواه كثيراً في هذه المدينة أنها "بانورامية"؛ أينما تنظر، ثمة جمال على مدّ النظر، حتى أظنني أحياناً قد غادرت إسبانيا، وأوروبا، والأرض نفسها، إلى مكان ربما لا نراه إلا في اللوحات الزيتية. أينما تنظر... أينما كنت، حتى في قلبها. فالمدينة القديمة، أو الحيّ القديم في المدينة كما أفضّل أن أسمّيه، معروفة محلياً باسم La Parte Vieja، هي الأشهر في سان سيباستيان، إذ يعود تاريخ معظم مبانيها إلى منتصف القرن التاسع عشر. أسير فيها على غير هدي، فأجدها متاهةً جميلة تتقاطع فيها شوارع صغيرة، تصطفّ على جانبيها حانات Pintxos (تُنطق "pinchos") ومتاجر صغيرة.
في قلب هذا الحي القديم ساحة واسعة جداً، تزيد مساحتها على ألفي متر مربع، هي ساحة Plaza de la Constitución؛ إنها قلب سان سيباستيان النابض. أخبرتني صديقتي الباسكية آرجي إن هذا المستطيل الذي تحدّه اليوم من جهاته كلها مبانٍ مؤلفة من أربعة طوابق، "كان في سابق الأيام ميداناً لمصارعة الثيران، وصار اليوم فضاءً عمومياً، يجتمع فيه الناس بسبب وبلا سبب"، حتى دلّتني على أرقام ما زالت واضحة على الشرفات المطلّة على الساحة، قائلةً: "إنها أرقام مقاعد على المدرج الذي كان يلفّ الساحة، يجلس فيه المتفرّجون على مصارعة الثيران".
بعيداً من الحي القديم، مكاني المفضل هو منطقة غروس التي تنبسط من هضاب جبل يوليا حتى منبع نهر أوروميا، وعودةً إلى منطقة إيجيا. هذا ساحل لا تجد أجمل منه في هذا العالم، من دون أي مبالغة. في تموز (يوليو) من كل عام، تكتظ الشوارع في غروس بمحبّي الموسيقى، يأتون من كل العالم لحضور مهرجان Heineken Jazzaldia. أجول في هذه الشوارع ذهاباً إياباً لأجل المتعة فحسب، وأقصد Zurriola Beach بذاته، عنوةً عن المسابح الأخرى في المنطقة، لأنه ملتقى هواة رياضة ركوب الموج. وحين أريد السباحة الهادئة، بلا صخب، والاسترخاء في أشعّة الشمس، أقصد La Concha Beach. بالنسبة إليّ، هذا الشاطئ هو الأجمل في أوروبا: يمتدّ مسافة 1,350 متراً، برمال ذهبية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وبأنواع من الأصداف البحرية ما رأيتها في مكان آخر... ومنها يستمدّ المكان اسمه (Concha تعني صدفة بالإسبانية). تقول صديقتي آرجي إن أروع ما في هذا المكان "أنه محميّ من غضب المحيط الأطلسي". ما فهمت ما تقصده فعلاً إلا عندما وقفت في وسطه، فرأيت جبلي أورغول وإيغيلدو على جانبيه، وجزيرة سانتا كلارا تتوسّط خليجه.

![]() | ![]() |
سببان لحيرتي في سان سيباستيان: الفنادق والمطاعم. الجواب صعبٌ إن سألوني: "أي فندق أجمل؟"، ومستحيل إن خيّروني بين المطاعم هنا. ربما أفضّل النزول في فندق Mercure San Sebastian Monte Igueldo، لأنه في أعلى الجبل، ومنه أشرف على المدينة كلها، بأدقّ تفاصيلها. حتى أني أحياناً أغادره سيراً، نزولاً إلى La Concha Beach. ثمة فندق آخر، في المنطقة نفسها، لا يبعد أكثر من 5 كيلومترات عن الطريق الرئيسي Calle Mayor. إنه فندق Akelarre البهي بنجومه الخمس، وبخدماته الراقية، وتشمل منتجعاً صحياً كاملاً، وشرفةً واسعةً فيها حوض سباحة مترامي الأطراف.
مسبح هو الأجمل في أوروبا، برمال ذهبية بكل ما للكلمة من معنى!"
شاءت الصدف أن أكون في سان سيباستيان يوم عقدت آرجي قرانها، فحضرت الحفل الذي اقتصر مدعوّوه على العائلتين والأصدقاء والمقرّبين. كان ذلك في Hotel Jaizkibel، فوجدته فندقاً جديراً بأن أجرّبه. كانت ليلةً جميلة، إسبانية نعم، لكن بمعايير حديثة جداً. فالفندق نفسه حداثي الطراز، منمنمٌ قليلاً في تصميمه الداخلي، يلائم من يريد الرفاهية بلا حدود.
المستحيل هنا أن تقول هذا المطعم هو المفضّل عندي، أو ذاك ربما! فسان سيباستيان معروفة بما فيها من مذاقات تجتمع من العالم كله على شاطئ إقليم الباسك الإسباني. تصف آرجي مشهد الضيافة الغذائية في المدينة بمصطلح أفهمه جيداً: "الترفيه بالغذاء". برأيها، ليست المسابح ولا المناظر وحدها ما يشدّ الناس إلى مدينتها، إنما "المذاقات" أيضاً. فالحياة هنا تدور حول أطباق السمك، بدرجة أولى.
الحياة هنا تدور حول أطباق السمك!"
أحد أجمل المطاعم هنا هو مطعم Antonio Boulevard الذي يقدّم أطباق سمك تقليدية متصلة بتراث إقليم الباسك. أطيب ما في قائمته طبق الأرزّ بالمحار والصلصة الخضراء (بسعر 26€)، وطبق سمك القد في الفلفل المسلوق (بسعر 21€)، وطبق سمك الراهب المشوي مع الثوم المقلي والبطاطا (بسعر 34€). في مطعم Narru، استمتعت بالجلوس على شرفته الواسعة المطلة على البحر، وبمذاق طبق Salmorejo المؤلف من سمك التونة الأحمر (بسعر 15€)، وطبق الأخطبوط المشوي مع البطاطا (بسعر 42€). زرت مع آرجي وعريسها مطعم وحانة Arenales. هنا، لا لحوم ولا أسماك، فآرجي وزوجها نباتيان. الجلسة ممتعة، وأتى مذاق طبق Berenjenas Al Escabeche (بسعر 8€) المؤلف من الباذنجان المخمّر في الخل والزيت قريباً من مذاق "مخلل المكدوس" الذي نحضّره في بلاد الشام. الجميل في المطعم أنه فتيٌ، ففيه يجلس الشبان والفتيات على الأرض أحياناً إن لم يجدوا كرسياً متاحاً، ويأكلون على طبيعتهم من دون تكلف، وسط ترحيب العاملين هنا. إنه جوّ قلّما نشهده في الشرق.

غادرتني آرجي إلى شهر العسل، فاستعنت بمرشدةٍ سياحية كي تواكبني في إشباع فضولي الثقافي. كانت San Sebastian Cathedral أولى محطات هذا الإشباع: إنه صرح بني في القرن التاسع عشر، على طراز نيو-قوطي، معروف محلياً باسم مختلف: Catedral del Buen Pastor de San Sebastián. اللافت في تصميم هذه الكاتدرائية التقشّف في داخلها، والاستعانة بنوافذ زجاجية ملوّنة لإضاءة المكان بألوان جميلة، توحي بهدوء يتسلّل إلى النفس، خصوصاً عند الاستماع إلى الموسيقى تصدح من أُرغن أنبوبي ضخم، ربما يكون الأكبر في أوروبا، على ذمّة المرشدة طبعاً.

ليس بعيداً من هذه الكنيسة متحف San Telmo Museoa، الذي يشغل مبنى كان ديراً بني في القرن السادس عشر. في المتحف ثلاث صالات خصّصت للفنون الجميلة، والتاريخ، والآثار، إلى جانب فضاءات مخصّصة لمعارض الفنون التشكيلية والنحت، ومعارض الأسلحة القديمة، خصوصاً السيوف التي تعود إلى عهد الحروب الصليبية، والعملات المعدنية القديمة، إلى جانب الأدوات المستخدمة في الطقوس الكنسية المسيحية. لا بدّ من الاعتراف بأنني شاهدت هنا مجموعة غير مسبوقة من الأدوات التي تروي، بصمت، أجزاء من تاريخ إقليم الباسك، في عصور مختلفة.
رحت استمتع بمشاهدة أسماك القرش وقناديل البحر والسلاحف البحرية تسبح كلها حولي"
زرت مركزاً ثقافياً - فنياً آخر في سان سيباستيان، هو مركز Victoria Eugenia Antzokia في ساحة De Okendo Plaza، المطلّ على نهر أوروميا. صمّم هذا المبنى الرملي المعماري فرانسيسكو دي أوركولا، على الطراز النهضوي الإسباني. ومنذ عام 1912، يعدّ منطلقاً لحياة ثقافية فنية غنية في المدينة. وفي أيلول (سبتمبر) من كل عام، يشهد حدثاً سنوياً مهماً هو المهرجان السينمائي العالمي الذي يُقام هنا.
ليس بعيداً من الحي القديم، يصطفّ الناس لدخول Aquarium de San Sebastián ومشاهدة الأسماك في بيئتها الحقيقية. السير في ذلك النفق الزجاجي لم يكن شيئاً سهلاً. ففي كل لحظة، كنت تحت تأثير فكرة مزعجة: "ماذا لو انكسر الزجاج لأيّ سبب؟". سرعان ما انزاح هذا الخوف من قلبي، ورحت استمتع بمشاهدة أسماك القرش وقناديل البحر والسلاحف البحرية، تسبح كلها حولي، غير عابئة بي، وأنا أسير في نفق وسطها. رؤية الأطفال هنا قوّى عزيمتي. إن كانوا لا يخافون، فلِمَ أخاف؟
في Mercado de La Bretxa، أجد كل ما أريد طازجاً، خصوصاً الزيتون الأخضر، والزيت البكر، واللحم المقدّد. كان صعباً أن أردع نفسي، فاشتريت منها، ومن دون أن أدري إن كانت الجرار الزجاجية ستصل سليمةً في حقيبة السفر، أم سأخسرها وسأخسر معها الكثير من متاعي الخاصة. كانت مسألة تستحقّ المغامرة.