حين زرت كراكوف في جنوب بولندا أول مرة في عام 2017، كان أجمل ما رأيت ضفاف نهر فيستولا، الذي ارتسم في مخيّلتي كائناً حياً يتحدّر من أصول قديمة تمثّلها جبال كارباثيان في جنوبي البلاد. الجميل في النهر أنه يتّخذ مجرى دائرياً نحو الشمال، فيشقّ العاصمة وارسو لتصبّ فروعه العديدة في بحر البلطيق. توطدت علاقتي بالنهر بفضل صديق اسمه إيميريك، وهو متطوّع في إحدى المنظمات الأممية، التقيته على ضفة فيستُلا يروي الحكايات لشبان وشابات تحلّقوا حوله، عرّفني إلى شوارع المدينة وأزقّتها. في كل مرة أزور كراكوف، يتفرّغ يومين أو ثلاثة ليكون مرشدي السياحي وراوياً يحدّثني بقصص بولندية جميلة، يحاول دائماً أن يقنعني بأنها واقعيَّة.

%2C%20Krak%C3%B3w%2C%20Ma%C5%82opolska%2C%20Poland_00011.jpeg)
%2C%20Krak%C3%B3w%2C%20Lesser%20Poland%20Voivodeship%2C%20Poland_00011.jpeg)
أنا ضيفة فندق Stary في وسط المدينة القديمة. جميل هذا الفندق بروحه البولندية التي تحتار في تصنيفها: أشرقية هي أم غربية؟ أأوروبية هي أم متمسّكة بتقاليدها الخاصة؟ يقول إيميريك: "ما زلنا نعاني أزمة هوية ربما بالرغم من انطواء حقبة الحرب الباردة". هذا جليّ في الفندق: تراثي بولندي بنفحة حداثية، نال تصميمه جائزة دولية في عام 2007، على سطحه ملهى Sky Bar، الصاخب، والمطلّ على السوق الرئيسية في المدينة وعلى الحيّ القديم فيها. يضم الفندق حوضين للسباحة، أحدهما شبه أولمبي، أمارس فيهما هوايتي المفضّلة، قبل أن أنتقل إلى المنتجع الصحي. تعرّفت هناك إلى حنّة، وهي خبيرة في التدليك الطبي، تخرج من جسدي التعب كأنها تعزف البيانو. صارت صديقتي بعد جلستين، فدعتني إلى تناول المثلّجات في Lodowa Huta، حيث تُحضّر كل المثلّجات بمواد طبيعية جداً. أحببت جداً نكهة raspberry meringue وطبق مثلّجات Walnut with maple syrup.
قلعة Wawel من أبرز معالم بولندا وهي مدرجة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي"
خيار متميز آخر يقدمه فندق Pollera بالحيّ القديم في كراكوف. صمم واجهته الزجاجية الملوّنة ستانيسلاف ويسبيانسكي، وهو فنان من كراكوف. يتميز الفندق بتقاليده العائلية العريقة، وغرفه الأنيقة التي صمّمت على طريقة art nouveau، يقدّم لنزلائه واحدة من أجمل تجارب الضيافة وأكثرها أصالة، في قالب يمزج التراث البولندي بالحداثة الأوروبية.

%2C%20Krak%C3%B3w%2C%20Ma%C5%82opolska%2C%20Poland_00011.jpeg)

أحبذ تناول الطعام في Trzy Rybki في الفندق نفسه. هذا المطعم حائز نجمة Michelin، يتناقض في تصميمه الاستثنائي من عصر النهضة مع القناطر فوق النوافذ القوطية. التقليد والحداثة يمتزجان أيضاً في قائمة الطعام، المستندة إلى المطبخ البولندي التقليدي وتتغير بتغير المواسم. قال لي كريستوف زوريك، الطاهي الرئيسي في المطعم: "في الربيع والصيف، تسود الخضروات الطازجة والهليون والخرشوف، فيما يهيمن الفطر في الخريف والشتاء". نصحني... فتناولت طبق قطع اللحم المطهوّة بالتفاح والأعشاب الطازجة في صلصة مصنوعة بالنبيذ الأبيض (بسعر PLN135)، وتحلّيت بزلابية الريكوتا مع اليقطين وبوريه البرتقال الأحمر مع المثلّجات بنكهة الفانيليا (بسعر PLN49).
![]() | ![]() |
على بعد دقيقة فقط سيراً من متحف Oskar Schindler’s Factory، يقدم Handelek أفضل إفطار صباحي محلي. إنه أقرب إلى الحانة الصغيرة منه إلى المطعم، موائده مشغولة دائماً. من لا يعرف موقع المطعم قد لا يتنبّه لوجوده، إذ هو في مصنع قديم، لذا يتميز بنوافذه الكبيرة وسقفه العالي. يقدّم Handelek خبزاً يُعدّ بدقيقٍ من مطاحن محلية، ويخبز في مخبز حرفي داخل المطعم. أحببت هذا الخبز مع البيض المخفوق الذي يضيفون إليه جبن oscypek البولندي التقليدي. ولأفضل طعام يوناني في المدينة هناك Greek Taverna Minoas. سمّيت الأطباق كلها بأسماء بولندية وإنكليزية، إلا أن مالك المطعم حاول استخدام كلمات يونانية مثل kontosufli وsoutzoukakia. تهيمن اللحوم على قائمة الطعام، وهذا ليس غريباً في مطعم يوناني، لكن تحضر أيضاً أطباق جبنة الفيتا المشوية والسلطة اليونانية وسلطة كريت وtzatziki أو الخضار المشوية. يمكن تناول وجبة كاملة في هذا المطعم بنحو PLN35.



من محطاتي الرئيسية في كراكوف قلعة Wawel، وهي أحد المواقع المدرجة في قائمة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي، وأحد أهم المعالم الثقافية في بولندا. أحبّ النظر إليها من بعيد إذ تقع على تلّ يطلّ على نهر فيستولا، كما أهوى التجوّل فيها، إذ تضمّ متحفاً وكاتدرائية وحدائق عدة. ليس بعيداً من القلعة، كاتدرائية St. Mary's Basilica، وهذه كنيسة قوطية تشتهر بتصميمها الداخلي المذهل، وببوقها الذي ينطلق كل ساعة من أعلى برجها الذي يرتفع 80 متراً. أقف دائماً مشدوهة أمام المذبح الخشبي في هذه الكاتدرائية، نحته النحّات المعروف ويت ستوس، وأمام جداريات ضخمة مفعمة بالألوان الحية، بريشة الرسام البولندي جان ماتيكو. في عام 1978، أعلنت منظمة UNESCO هذه الكاتدرائية موقعاً تراثياً عالمياً، إلى جانب كونها مرجعاً لتاريخ كراكوف.
![]() | ![]() |
حين يكون الجوّ قليل البرودة، أتجوّل قليلاً في متنزه Planty Park، فأبتعد عن صخب المدينة، قبل أن أنتقل منه إلى Polish Aviation Museum، الذي يضمّ مجموعة كبيرة من الطائرات والمحرّكات التي يتم توزيعها بشكل استراتيجي في جميع أنحاء مدارج المطار القديم، لتعكس تطوّر الطيران منذ إنشائه أول مرة. تقع هنا على درر جوية، مثل الطائرات الشراعية والأسلحة المضادة للطائرات والمقاتلات الحديثة والطائرات المستخدمة في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي الحرب الباردة.

%2C%20Krak%C3%B3w%2C%20Ma%C5%82opolska%2C%20Poland_00023.jpeg)

متحف Oskar Schindler's Factory مخصّص لحقبة الاحتلال النازي قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها. فيه، تعرّفت إلى قصة أوسكار شندلر الذي أنقذ عدداً كبيراً من يهود بولندا من مجازر النازيين. تستغرق الجولة في هذا المتحف قرابة الساعتين، وهو مبنيّ بطريقة فريدة: رتّبت كل غرفة من غرفه بدقة لتشبه مكاناً محدّداً: شارع ودكان لتصفيف الشعر ومعسكر ومحطة سكة حديد وغيرها (هناك 45 غرفة). يقول الدليل السياحي "إنها طريقة لإثارة اهتمام الزوّار طوال مدة الجولة التي تستغرق قرابة الساعتين".

%2C%20Lesser%20Poland%20Voivodeship%2C%20Poland_00112.jpeg)
على مسافة قصيرة من كراكوف، أزور معسكر Auschwitz النازي، وكان معسكراً نازياً لاعتقال اليهود وأقليات أخرى من أوروبا ومعارضين تمهيداً لقتلهم. يتألف المجمع من معسكرات مرقّمة من واحد إلى ثلاثة. كان الأول هو المعسكر الأساس، "استخدمه النازيون لأغراض إدارية، ولإيواء سجناء كانوا يعتبرون من النخبة. وكان الثاني هو الأكبر، استخدمه النازيون للإبادة الجماعية، فيما خصّصوا الثالث لاستغلال المعتقلين في أعمال السخرة"، بحسب الدليل.