تستقطب سوق البرغوث في سانت - أوين زواراً يتوافدون إليها من كل حدب وصوب، تجذبهم كنوزها الكلاسيكية والعتيقة. إن جلت في تلك الشبكة الممتدة من الأسواق المسقوفة ومتاجر التحف الأثرية، والتي تنبسط على مساحة 17 أكراً في الأطراف الشمالية للعاصمة الفرنسية باريس، تجد كل ما قد يخطر في بال، ابتداءً بالكراسي والأواني الفضية الكلاسيكية من Eames من خمسينيات القرن العشرين، وانتهاءً بنماذج مقلّدة لمجوهرات تحمل شعار Chanel ولأحذية تحمل علامة Nike.
لمن يبحث عن حليّ بثمن بخس، لكنها تنضح سحراً، فثمة متجرٌ واحد لهذه الغاية، يقع في الركن القصي من أحد الممرات الضيّقة والمتعرّجة في السوق. إنه متجر Tombées du Camion، ومعنى اسمه سقط المتاع، أو حرفياً "سقط من الشاحنة" (في إشارة ساخرة إلى وسائل يحصل بعض التجّار من خلالها على بضائعهم)، يمنح هواة الجمع متعة كبيرة بمخزون لامتناهٍ يبدو من الأغراض غير العادية.


تشارلز ماس غريب الأطوار، وهو مؤسّس المتجر والقيّم عليه، يقول: "أبيع أيّ شيء وكلّ شيء". قد تجدون، في أيّ يوم من الأيام، فراشي شعر بلاستيكية صغيرة وزجاجات أطفال (بسعر 3€)، ومناظير من القرن العشرين (بسعر 25€)، وأختاماً حفرت فيها الحروف (بسعر يبدأ من 5€)، ومقصّات خياطة بشكل برج إيفل (بسعر 25€)، ورؤوس دمى (بسعر 18€)، وبطاقات بريدية قديمة (بسعر 4€)، وعقارب منبّهات من السبعينيات (بسعر 3€)، ولفّات من الأسلاك اللاسلكية (بسعر 15€)، وقوارير زجاجية مختومة تحتوي على عقار Élixir Parégorique الصبغي القديم المضاد للإسهال والمستخرج من الأفيون (بسعر 6€)، تتكدّس كلّها في صناديق خشبية أو تُعرَض على رفوف خشنة الملمس صمّمها هاس وصنعها بنفسه. يقول: "يستهويني المعنى الخفي في كل غرض من هذه الأغراض. أحياناً، أشتري أشياء لا تثير الاهتمام بوجه خاص، إلا حين تنظر ملياً في الغاية منها".
كان ماس نحّاتاً وتاجر أغراض مستعملة في السابق، وقد افتتح متجره هذا في عام 2006 بعدما خاب ظنّه في تجارة التحف الأثرية. يشرح: "كانت الأشياء القديمة تستهويني، لكن أسلوب التجارة والمضاربة والمنافسة لم يرق لي يوماً، فقررت إنشاء عملي الخاص ببيع أغراض لا تثير اهتمام الآخرين، فلا أُضطر بذلك إلى الدخول في منافسة، ولأنني أيضاً اعتبرت أن تكديس أغراض لا طائل منها بكميات كبيرة مثير للاهتمام من الناحية الجمالية".

لا يبحث ماس عن أغراضه في المزادات العلنية، إنما في أسواق البرغوث، أو لدى تجّار يجوبون مستودعات الألعاب والمصانع الفرنسية المهجورة بحثاً عن أشياء صغيرة قديمة غير مستخدمة، مثل رؤوس الدمى التي أُنقِذت من مصنع Bébé de Paris الذي أغلق أبوابه في مطلع القرن العشرين. يقول ماس عن متجره: "يعد متجري هذا من المتاجر الأكثر جنوناً في العالم، فالهدف منه ليس كسب المال. يشتري الناس أغراضاً بالطبع؛ وعليّ أن أسدّد بدل الإيجار، لكنه بالنسبة إليّ مساحةٌ للهو والمرح".
ليس هدفي كسب المال… بل اللهو والمرح"
يستلهم ماس من السُريالية والدادائية، جامعاً دمى الفنان الألماني هانس بلمر الغريبة أو قصر Facteur Cheval المبني من الحصى، فيرتّب أغراضه في أنماط ملوّنة يعلّقها على الجدران وفي السقف. أتت النتيجة أشبه بتركيب فنّي أو متحف صغير. يقول ماس: "هذه الأغراض تافهة، لكن عند وضع كل منها بجانب غرض آخر – كأن تضع مثلاً عين دمية قرب جزرة بلاستيكية – تَظهر النتيجة فجأةً كأنها قصيدةٌ مرصوصة".
![]() | ![]() |
عملاء المتجر انتقائيون، مثل مخزونه تماماً، ابتداءً من مصمّمي ديكورات الأفلام والمسرحيات وانتهاءً بالأطفال الصغار في العطلة، تجذبهم جميعاً الصناديق التي تتكدّس فيها أكوام الخرز ومشابك الشعر ومجوهرات Bakelite. يقول ماس: "ليست ثمة فئات حقيقية من العملاء. إنهم أشخاص من كل الأعمار، ابتداءً ممن يبحثون عن أغراض تذكّرهم بطفولتهم، وانتهاءً بمَن هم مثلك ومثلي، ويحلو لي دائماً أن أراهم أشخاصاً يتمتّعون بحسّ الفكاهة".
بالنسبة إلى العملاء الأكبر سنّاً الذين يرتادون متجر ماس، الأغراض المعروضة، ومعظمها مصنوع في فرنسا، هي أيضاً نافذة حنين يعودون من خلالها إلى صباهم. يقول ماس: "أرى أشخاصاً في سبعينياتهم وثمانينياتهم يكتشفون شيئاً من طفولتهم يثير فيهم المشاعر. كأنّه سفرٌ في الزمن".