مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

سفر

كيف تستمتعون بأوقاتكم في... ريغا

في أزقتها وفنادقها، في مقاهيها ومتاحفها، وحتى في أسواقها، تقنعك عاصمة لاتفيا أنها مدينة للتاريخ والسحر والثقافة والحياة الثرية بكل وجوهها

شروق الشمس فوق ريغا كما يظهر من شرفة فندق Radisson Blu Daugava Hotel © وليد خوريشروق الشمس فوق ريغا كما يظهر من شرفة فندق Radisson Blu Daugava Hotel © وليد خوري

من أراد أن يجسّ نبض لاتفيا، يكفيه أن يجلس قليلاً على ضفاف نهر دوغافا، المتدفق قوياً من مرتفعات فالداي في روسيا، عابراً روسيا البيضاء، ليصبّ في خليجٍ يرسم حدود العاصمة ريغا. يقودني هذا النبض دائماً إلى النزول في فندق Radisson Blu Daugava Hotel على ضفاف النهر. نجومه الأربع ساطعة في توفيره كل أسباب الراحة لنزلائه، بغرف أنيقة مؤثثة بذوق لاتفي رفيع يجمع بين البساطة من دون استخفاف والفخامة من دون تكلّف. صرت من "أهل البيت"! أحياناً أرشد نزيلاً جديداً إلى غرفة الاجتماعات أو إلى النادي الصحي – الرياضي، فتبتسم لي كاترينا، موظفة الاستقبال، وتبادرني بتحية عربية صارت تُتقنها: "أهلاً وسهلاً". صحيح أن هاءَها خاء، لكنها تُشعرني فعلاً أنني لست في غربة هنا.

عمل فني منصوب على ضفاف نهر دوغافا الذي يتدفق من مرتفعات فالداي في روسيا © وليد خوري
يمثل نهر دوغافا شريان حياة رئيسياً لقطاع السياحة في عاصمة لاتفيا © وليد خوري

قبل أن تدقّ السابعة، أحمل قهوتي الصباحية وأقصد ساحة Ratslaukums، قلب ريغا النابض. صيفاً، تكتظّ هذه الساحة ليل نهار بفنّاني الشوارع، وتصدح في أرجائها موسيقى حية منبعثة من مطاعمٍ ومقاهٍ ضاقت على روّادها فافترشوا الرصيف راضين مبتسمين. أتفيّأ تمثال Roland Statue، رمز الحرية والاستقلال في البلاد، قليلاً ثم أمشي الهوينا نحو Town Hall، مبنى البلدية المشيّد في القرن الرابع عشر. أقف أمامه دائماً وأحدق في تفاصيله المعمارية القوطية الجميلة. إنه مفتاح المدينة القديمة التي أدرجتها منظمة اليونيسكو في قائمتها للتراث العالمي. 

من داخل مبنى The House of the Black Heads في وسط ريغا © وليد خوري
ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية تزور The House of the Black Heads © وليد خوري

الآثار هنا مختلفة. ربما وجدت في كاتدرائية ريغا الترجمة الفعلية لمقولة "حجر يشهد على عصر". إنها أكبر كنيسة من القرون الوسطى في دول البلطيق، بُنيت في القرن الثالث عشر، تجمّلها تأثيرات قوطية وباروكية. أُغلقت حين كانت لاتفيا ضمن المنظومة الاشتراكية، وعادت إليها الحياة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. في ريغا كنيسة أخرى أجد فيها مثالاً مذهلاً آخر على فن العمارة في البلاد: شيّدت كنيسة القديس بطرس قبل 800 عام، وصارت ببرجها الشاهق واحدة من أشهر معالم المدينة. في أحد أدراج مكتبي دفتر صغير للرسم تملأ صفحاته خربشات فسيفسائية لبعض أنحاء ريغا الخلابة، حاولت رسمها وقوفاً في رأس هذا البرج، وما أتممت أياً منها.

مطعم OGLE وسط المدينة القديمة © وليد خوري
تكثر الفنادق في وسط ريغا الذي يعد وجهة تراثية وسياحية مقصودة © وليد خوري

في قلب ريغا القديمة، لا أملّ من زيارة The House of the Black Heads. ارتفع في القرن الرابع عشر، وكان مخصّصاً لاجتماعات أخوية Brotherhood of Black Heads، وهذه نقابة للتجار الألمان العزّاب. أعمال الديكور مذهلة، لم ينل منها ترميمٌ قاده المعماري المبدع رينيس ليبينس في التسعينيات؛ إذ استعان بصور ووثائق قديمة "ليحيي هذا الصرح تماماً كما كان قبل أن تدمّره الحرب العالمية الثانية"، بحسب مرشد سياحي أثرت فضوله بتحديقي طويلاً في لوحة منمنمة تغطي سقف إحدى الغرف. أما مقصدي الدائم فهو Art Nouveau District، وهذا ركنٌ في ريغا مخصّص للحداثة في فنون العمارة. ثمة أبنية هناك مطبوعة في ذاكرتي لا تُغادرها: عمارة Vīlandes Street 10 التي صمّمها كونستانتينس بيكشينس، وعمارة Elizabetes Street 10a التي صمّمها ميكاييل أيزينشتاين، وعمارة Jauniela Street 25/29 التي بناها ويلهلم لودفيغ بوكسلاف.

محطتي الأخيرة والدائمة في مسيرة "غذاء الروح" في ريغا هي متحف Occupation Museum، أو متحف "الاحتلال". زيارة واحدة لا تكفي كي أطلع على تفاصيل موثقة لحقبة احتلال امتدّت 51 عاماً: النازيون أولاً ثم السوفيات. يضمّ المتحف نحو 60,000 وثيقة سمعية وبصرية مسجلة، وأكثر من 2300 شهادة مصوّرة عن مُرحّلين قسراً ولاجئين طوعاً وغيرهم ممّن فتك بهم النازيون والسوفيات.

صيف ريغا قصير نسبياً لكن قطاع السياحة فيها ينمو بانتظام © وليد خوري
تضم المكتبة الوطنية في ريغا عشرات آلاف المجلدات والكتب والوثائق والمخطوطات التي تؤرخ لماضي البلاد وأوروبا © وليد خوري
مكتبة ريغا كما تبدو من ضفة نهر دوغافا © وليد خوري

أما وقد غذّيت عقلي وروحي، فأين أتناول طعاماً طيباً؟ إن كنتُ في الفندق، أقصد مطعم Panorama Restaurant في الطابق 25، لأسترخي بجانب نافذة كبيرة (تمتدّ من الأرض إلى السقف) وأستمتع بإطلالة ساحرة على نهر دوغافا وأحياء المدينة المتلألئة ليلاً. تجذبني دائماً أناقة هذا المطعم ودراية مصمّمه، فلن تجد فيه مائدة بلا إطلالة. لكن الرومنسية المهيمنة هنا تعظّم شعوري بالوحدة. قائمة الطعام غنية، تمزج الذوق المحلي بالعالمي، إعتدت أن أختار منها طبقاً دلّني إليه الطاهي الرئيسي هنا، يانيس زفيربوليس، صدفةً: شريحة لحم تندرلوين مشوية مع البطاطا المهروسة والخضار المشوية متبّلة بصلصة فيها نبيذ أحمر. 

حين أتوق إلى طعام بلدي لبنان، أقصد مطعم OGLE، وهو بعيدٌ دقيقتين سيراً من كنيسة القديس بطرس في المدينة القديمة. كلمة ogle باللاتفية تعني الزيت، وقد لا يكون هو نفسه زيت الطعام؛ إذ أقيم المطعم في منشأة قديمة لتخزين النفط. من يظنّ هذا ممكناً؟. قائمة الطعام هنا لاتفية – أوروبية – لبنانية، أساسها الشيّ، عامرة بخيارات من اللحوم وثمار البحر، وثمة أطباق للنباتيين. أقصده حين تخطر ببالي التبولة والحمّص والكباب المشويّ كما أتناوله في بيروت، لكن الطبق الأكثر طلباً هو الأخطبوط المشوي مع الشوريزو.

قلعة طريدة في سيغولدا © وليد خوري
قلعة سيغولدا القديمة وفي مقابلها تقع القلعة الجديدة © وليد خوري
من أطباق مطعم OGLE © وليد خوري

طالما أنها لا تمطر، أبتعد عن ريغا قليلاً، نحو 25 كيلومتراً غرباً. يقول لي سائق سيارة الأجرة إن يورمالا "تغسل قدميها في بحر البلطيق"، على امتداد 30 كيلومتراً. وهي كذلك. رمالها ذهبية، ومطاعمها ومقاهيها كثيرة تعجّ بمن يأتونها على مدار السنة من أنحاء أوروبا كلها، ومن الشرق الأوسط والأقصى. أرتمي هناك وأسلِّم أمري للطف الشمس وانتعاش الماء. في منتصف النهار، يحلو ركوب الدرّاجة الهوائية في متنزّه Dzintari Forest Park الجميل، بين الشاطئ وغابة الصنوبر، أتمتّع بما فيه من أنواع نباتية غريبة الأشكال والألوان. أترك الدرّاجة على باب شارع يوماس المخصّص للمشاة، تصطفّ على جانبيه مقاهٍ ومطاعم وملاهٍ ليلية ومحلات تجارية. أسير فيه لأنتقي تذكارات، وأدلّل نفسي بمثلجات بطعم الأفوكادو والسمسم الأسود من Crazy Candy.

تكثر في منطقة Art Nouveau District في ريغا الأبنية الخلابة الواجهات © وليد خوري
السوق المركزية بجوار محطة ريغا الدولية للحافلات ومحطة السكك الحديد المركزية © وليد خوري
من داخل متحف الاحتلال في ريغا © وليد خوري

أبعد قليلاً  في الاتجاه المعاكس تقع بلدة سيغولدا التاريخية، وتحمل لقب "سويسرا لاتفيا" نظراً لطبيعتها الجميلة. اكتشف قصر كريمولدا مانور المبني في القرن التاسع عشر، والمحاط بحدائق رائعة. تضم المنطقة كذلك مجموعة كبيرة من القصور وكذلك قلعة سيغولدا الذي تجذب الزوار. في منتصف طريق العودة يقع كهف غوتمان، ويعود تاريخه الحافل بالأساطير إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.  

كهف غوتمان ونقوشه القديمة © وليد خوري
تعتبر يرمالا شرفة ريغا على بحر البلطيق © وليد خوري

أعود عصراً إلى ريغا، وتواً إلى السوق المركزية على ضفاف نهر دوغافا، بجوار محطة ريغا الدولية للحافلات ومحطة السكك الحديد المركزية. ليست هذه واحدة من أكبر أسواق أوروبا الشرقية فحسب، إنما هي أيضاً واحدة من أكثرها زيارة. لا أتسوّق هنا كثيراً، لكنني أمرّ بأكواخ حجرية بنيت في عشرينيات القرن الماضي، وصارت اليوم منافذ بيع غذائية تقدّم وجبات محلية وعالمية، شرقية وغربية. أحمل شطيرتي وأمشي نحو المستودعات القديمة المعروفة باسم spikeri، وقد حوّلوها حيّاً للفنون والتراث والترفيه. وكأيّ شيء آخر في ريغا، أدرجت هذه السوق الشاسعة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي.

6 تعليقات

شارك برأيك