"نحلم ونحقّق"؛ شعار مستقبلي يرفعه السعوديون محتفلين في 23 أيلول (سبتمبر) 2023 باليوم الوطني الثالث والتسعين، مستلهمين هوية اليوم الوطني في هذا العام من أحلام أصبحت قريبة وواقعية في كل مناحي الحياة بالمملكة، بفضل "رؤية السعودية 2030". يأتي في تقديم الهوية الجديدة: "ندرك نحن صُنّاع هذه الرؤية أن تقدّماً كبيراً تحقّق على أرض الواقع، ونفخر بأن نشارك هذا التقدّم والنجاح مع العالم، ونؤمن بأن إيصال الصورة الحقيقية لواقع المملكة المزدهر عمل جماعي وجهد مشترك ومسؤولية لكل الجهات والأفراد في هذا الوطن، لاستعراض ثمار الإنجازات التي حقّقناها في سبع سنوات فقط، ومشاركة قصة التحوّل التي عشناها مع العالم".
ويقول السعوديون في هذا العام بأعلى الصوت: "دارنا عمّرناها من الثرى للثريا". وفي هذا النداء يُختزَل تاريخ يمتدّ أكثر من 270 عاماً. لكن، ليس التاريخ إلا مدوّنة لسيرة العظماء. قالها المفكر البريطاني توماس كارلايل في القرن التاسع عشر، فكانت بصمةً لم تغادر كل الحقب التاريخية التي يمرّ فيها أي بلد. فالعظماء وحدهم يكتبون التاريخ بما صنعوا. لا صورة معبّرة تماماً عن حكمة كارلايل بقدر صورة المرسوم الملكي الذي أصدره الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود في 23 أيلول (سبتمبر) 1932 موحّداً مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها في وطن واحد: المملكة العربية السعودية.
يشبه البحث في تاريخ الحجاز ونجد التنقيب عن قصص الأبطال، بدأها الإمام محمد بن سعود في الدرعية، وهي اليوم وجهة للسياحة التراثية والتاريخية في المملكة، حين أسّس فيها الدولة السعودية الأولى، في عام 1744، موقّعاً في العام نفسه "ميثاق الدرعية"، الذي أعانه في بسط سلطانه على أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية، فضمّت دولته نجد وإقليم العارض – أي الدرعية والرياض والعيينة – ومنفوحة وضرما وأقاليم الوشم وسدير والخرج والقصيم وجبل شمر وبريدة والأحساء، ووصلت إلى حدود الخليج العربي فضمّت الكويت وقطر وعُمان والأردن والعراق.

زرع هذا التوسّع الخوف في قلب والي مصر محمد علي باشا، فأرسل ولده إبراهيم باشا على رأس جيش جرار لينهي هذه الدولة في عام 1818، ليدخل عاصمتها الدرعية بعد معارك طاحنة، فيدمّرها ويخضع الدولة السعودية الأولى للباب العالي العثماني. وما طال الزمن، حتى انبثق فجر الدولة السعودية الثانية، أنشأها تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود وجعل الرياض عاصمة دولته، بعد تدمير الدرعية. بدأت هذه الدولة مزدهرةً إلى أن ساد فيها الخلاف بين أولاد الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود بعيد وفاته في عام 1865. تصدّعت الدولة، فتمكّن الباب العالي العثماني من التوغّل فيها، بعون من آل الرشيد، حكام جبل شمر. وكانت النهاية في عام 1891.
سُنَّ أكثر من 70 إصلاحاً للقطاع الخاص لضمان استفادة المواطنين من مستقبل اقتصادي أكثر انفتاحاً وازدهاراً
في فجر 15 كانون الثاني (يناير) 1902، بدأت قصة بطولة جديدة، صارت إرثاً رسم مصير الدولة السعودية الحديثة. دخل الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الرياض فاتحاً، بعد معركة المصمك التاريخية، التي تغلّب فيها على ابن رشيد، وانتزع منه "العاصمة". يروي كتاب "أمة في رجل" أن الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود خرج من الكويت على رأس حملة صغيرة من 60 رجلاً من أقاربه وأنصاره صوب الرياض. ويقول الأمير خالد بن سلطان في كتابه "مقاتل من الصحراء" إن الأمير عبد العزيز تسلّل إلى الرياض ليلاً مع عشرة من مقاتليه، "فاستطاع هؤلاء النفر أن يدخلوا بيتاً مجاوراً لبيت عاملٍ لابن رشيد، وهو عجلان بن محمد، فتسلّق عبد العزيز ورفاقه إلى بيت عجلان، لكنهم لم يجدوه فيه. وأخبرتهم زوجته أنه نائم في قصر المصمك عند رجال حامية ابن رشيد، وأنه لا يأتي من ذلك القصر إلى بيته إلا بعد طلوع الشمس لعدم اطمئنانه إلى الأوضاع المحيطة به. فانتظر الجميع خروج عجلان من قصر المصمك. في هذه الأثناء، أرسل عبد العزيز إلى أخيه محمد ورفاقه، الذين بقوا خارج السور فانضمّوا إليهم وتكاملوا داخل بيت عجلان. فلما خرج عجلان بن محمد من قصر المصمك بعد شروق الشمس، ومعه عدة رجال، أطلق عليه عبد العزيز النار من بندقيته، فلم يقتله. ثم تتابع الرصاص من الباقين صائحين صيحة ملأت البلد: ’أهل العوجا.. أهل العوجا‘، وتعقّبوا عجلان ورجاله". يضيف الأمير خالد بن سلطان في كتابه: ازدحم عبد العزيز ورفاقه عند باب القصر، والحامية تصبّ رصاصها عليهم. ودخل عبدالله بن جلوي القصر في أثر عجلان، فأدركه جريحاً في مسجد القصر، فأجهز عليه برصاصة من بندقيته، وقُتل عدد من أتباعه. تتابع رجال عبد العزيز في دخول القصر، فاضطرّ باقي رجال الحامية إلى الاستسلام. ونودي في الرياض أن الحكم لله، ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود".

بعد فتح الرياض، وحد الملك عبد العزيز أقاليم نجد تحت رايته، فصار سلطاناً على نجد، ثم ملكاً على الحجاز، حيث انتقلت الرغبة الشعبية الجارفة بتوحيد البلاد تحت راية واحدة والانصهار في بلد واحد وشعب واحد من الطائف حيث ولدت إلى كل المدن والقرى والنواحي والهجر. وبعد اكتمال التوحيد، أصبح الملك عبد العزيز أول ملك للدولة بشكلها الحديث، تحت اسم المملكة العربية السعودية في 23 أيلول (سبتمبر) 1932، وصار الملك عبد العزيز موحد الدولة السعودية.
بدأت حينها أولى سياسات التحول في السعودية: من حكم العشائر إلى حكم الدولة والقانون. إن شعوب الجزيرة العربية التي انضوت تحت لواء المملكة السعودية لم تحظ برأي الخبراء طوال 5,000 عام إلا بومضات من الاستقرار على أيدي دول قدمت نموذجاً للحكم الراشد، كانت منها الدولة الإسلامية في المدينة المنورة التي استمرت أربعة عقود، ثم عادت الجزيرة العربية لتغطّ في سبات الإهمال لأكثر من 1,000 عام، حتى تأسيس الدولة السعودية الأولى. ثم أتى التحول الأكبر: النفط. وبين بدء بئر الدمام رقم 7 بإخراج 1500 برميل من الزيت يومياً في عام 1940، وطرح جزء من أسهم "أرامكو السعودية" في اكتتاب أولي في السوق المالية السعودية ليكتتب فيها السعوديون والشركات الدولية المستثمرة في السوق المحلية في عام 2020، ثمانية عقود من النهضة السعودية، ما زالت مستمرة.
خطط "الرؤية" تعتمد على مواطنين ومواطنات مؤمنين بها
رافقت الطفرة النفطية إنجازات سعودية مشهودة، أبطالها أبناء الملك المؤسس عبد العزيز الذي أرسى أسس دولة المؤسسات. فقد أنشأ الملك سعود مجلس الوزراء وحول مديرية المعارف إلى وزارة للمعارف وأسّس جامعة الملك سعود ووزارة الإعلام والتلفزيون السعودي وأول كلية حربية. ورسم الملك فيصل أسس التنمية المستدامة بإطلاق خطط خمسية ساهمت في تنمية المملكة، اقتصادياً واجتماعياً. تميز عهد الملك فيصل بالنمو المتسارع في الاقتصاد والنهضة الكبيرة في التعليم، كما أثمرت جهوده تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج. وخلفه الملك فهد بن عبد العزيز، فاستمرت في عهده خطط التنمية وحققت بلاده نتائج غير مسبوقة في الاقتصاد والرياضة وعلوم الفضاء، وقاد السعودية إلى أندية السياسة الكبرى في العالم، وأضحت السعودية واحدة من صناع السياسة الدولية. وهو من اتخذ لقب خادم الحرمين الشريفين بدلاً من جلالة الملك. في عهد الملك عبد الله، أنشئت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وأطلِق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وهو من أمر بإنشاء مدن اقتصادية ورياضية واستكمال توسعة الحرمين الشريفين.
حين يتحدث عثمان العمير، ناشر صحيفة "إيلاف" الإلكترونية ورئيس تحريرها، عن عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، يستخدم مصطلحاً بالغ الدلالة: "الدولة السعودية الرابعة". ومن يجول في الرياض وجدة والدمام والقصيم والطائف وحائل، وغيرها من مدن السعودية وأرجائها، يدرك أنه في السعودية الجديدة. ففي 25 كانون الثاني (يناير) 2015، اعتلى الملك سلمان العرش، فبدأ في إعادة بناء السعودية في شكلها الحديث، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتحديث الأنظمة وحوكمتها، وإلغاء ما تقادم منها. واليوم، بعد تسعة عقود ونيّف على التوحيد والتأسيس، يكمل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مسيرة الملك المؤسس بـ "رؤية السعودية 2030" وبرنامج التحول الوطني، والابتعاد عن الاقتصاد النفطي نحو اقتصاد منتج صناعياً، وموجه معرفياً، وحديث رقمياً.

تمكنت "رؤية السعودية 2030" من الانتقال بحالة المواطنين ومركز الحكومة إلى التركيز على النتائج والأداء، وعززت مركز الحكومة، وأعادت هيكلة الوزارات لضمان المواءمة وتحقيق الكفاءة، ما رفع المملكة إلى مصاف دول العالم المتقدمة. سُنَّ أكثر من 70 إصلاحاً للقطاع الخاص لضمان استفادة المواطنين من مستقبل اقتصادي أكثر انفتاحاً وازدهاراً، ولغرس الممارسات المستدامة. كما أرست عوامل التمكين الاقتصادي لتسريع النمو وتحفيز القطاعات الواعدة، وتمكين الشباب المبدع من تحقيق طموحه على أرض الواقع، ودعمت مشاركة المرأة في القوى العاملة فارتفعت نسبتها 34.5 بالمئة، متجاوزة بذلك النسب المستهدفة لها في نهاية العمر الإجمالي للرؤية الاستراتيجية بحلول عام 2030.
يعد الاقتصاد السعودي الأسرع نمواً في مجموعة العشرين بحسب أرقام العام 2022
في عام 2022، صار الاقتصاد السعودي الأسرع نمواً في مجموعة العشرين، وتضاعف عدد الشركات الصغيرة والمتوسطة، وانخفض معدل البطالة في عام 2022 إلى 8 بالمئة، من 11 بالمئة بنهاية عام 2021، وهو أدنى معدل بطالة تاريخياً، وارتفع عدد العمالة المواطنة في القطاع الخاص إلى أعلى مستوياته عند نحو 2.2 مليون مواطن ومواطنة، مسجلاً معدل نمو لتوطين الوظائف في القطاع الخاص عند 14.2 بالمئة في نهاية عام 2021، كما وصل معدل التوطين إلى 23.3 بالمئة. وزادت الإيرادات الحكومية غير النفطية أكثر من الضعف منذ عام 2016، وارتفعت ملكية المنازل أكثر من 13 بالمئة، فيملك أكثر من 60 بالمئة من السعوديين اليوم منازلهم. إلى ذلك، اقتصاد المملكة المتنوع والمستدام مستمر في إتاحة المزيد من فرص العمل للسعوديين والسعوديات، الذين تعززت إنتاجيتهم ومشاركتهم بتحسين بيئة الأعمال وتعزيز فاعلية الخدمات الحكومية. وساهمت التحولات الاقتصادية الكبرى بالمملكة في قيادة التحول الاجتماعي، وتمكين المواطن السعودي من تحقيق ذاته في مجالات كثيرة، وخلق الفرص لتنمية شغفه، وهذا زاد ثقته بنفسه وبقدرته على الإنجاز، وعزز شعوره بالانتماء والمسؤولية الاجتماعية واحترام القانون والاحترام المتبادل مع المكونات المجتمعية كلها. فخطط "رؤية السعودية 2030" تعتمد على مواطنين ومواطنات مؤمنين بها يساهمون في تنفيذها، وتواصل المملكة جهودها للوصول إلى مجتمع حيوي يعيش بنمط حياة مستدام، ويشكل أساساً قوياً للازدهار الاقتصادي، وتحقيق ريادة المملكة عالمياً.

إقرار الحكومة السعودية أكثر من 700 تغيير تنظيمي في البيئة الاستثمارية ساهم في أن تحل السعودية في المرتبة 54 عالمياً في مؤشر مدركات الفساد لعام 2022، الذي أصدرته Transparency International في 31 كانون الثاني (يناير) 2023، فأقبل عليها المستثمرون مستفيدين من تسهيلات وحوافز مغرية. ونما الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية، خلال الربع الأول من عام 2023، بنسبة 10.3 بالمئة، عند عتبة 2.16 مليار دولار. وبحسب طموح "رؤية السعودية 2030"، تسعى المملكة إلى جذب استثمارات أجنبية تتجاوز 100 مليار دولار بحلول عام 2030. وفتحت "الرؤية" المملكة على العالم بتوافد السياح والزوار والمستثمرين ليحضروا فاعليات وأنشطة ومناسبات عالمية كبرى، وليعيشوا تجارب غنية في الثقافة والضيافة السعوديتين، وليستكشفوا تاريخ المملكة العريق ومناظرها الطبيعية الخلابة وكرم أهلها، فترسّخت مكانة السعودية على خارطة السياحة الدولية. وتدرك السعودية، بوصفها رائدة في إنتاج النفط، دورها الحيوي في التخفيف من أثر التغير المناخي وتحفيز الحقبة الخضراء القادمة، فوضعت "الرؤية" الاستدامة في رأس أولوياتها عند رسم الخطط التنموية والمشاريع الكبرى، مثل مدينة نيوم المستقبلية ومدينة The Line الأولى من نوعها، وأدت دوراً حيوياً - إقليمياً وعالمياً – للترويج لحلول مبتكرة تضمن تحقيق مستقبل مستدام، ابتداءً بالإعلان الطموح عن هدف الوصول إلى الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2060.
صنفت المملكة أفضل دولة في الأداء الرقمي بين دول مجموعة العشرين
في التحول الرقمي، "الرؤية" جادة في إقامة اقتصاد معرفي رقمي حديث، لذا صنفت المملكة أفضل دولة في الأداء الرقمي بين دول مجموعة العشرين في تقرير التنافسية الرقمية لعام 2021، وحلت ثانية بين دول مجموعة العشرين والرابعة عالمياً من حيث جاهزية الأنظمة الرقمية. وفي تقرير منجزات "الرؤية" لعام 2022، سجلت الجهات الحكومية السعودية تقدّماً ملموساً في قياس التحوّل الرقمي زاد على 80 بالمئة، مقارنة بنحو 67 بالمئة في عام 2021. ومتوقع أن يمثل الاستثمار في التحوّل الرقمي في السعودية 50 بالمئة من الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للحكومة والشركات، بحلول عام 2023. كما تزيد تدفّقات الاستثمارات الأجنبية في سوق تقنية المعلومات على 2.13 مليار دولار، ومتوقع أن تبلغ مساهمة الاقتصاد الرقمي 20 بالمئة في إجمالي الاقتصاد الوطني السعودي بحلول عام 2025.
لحظة إطلاق "الرؤية"، قال الملك سلمان بن عبد العزيز: "هدفي الأول أن تكون بلادنا نموذجاً ناجحاً ورائداً في العالم على كافة الأصعدة، وسأعمل معكم على تحقيق ذلك". اليوم، فيما يحيي السعوديون ذكر 93 عاماً من التوحيد، رافعين شعار "نحلم ونحقق"، الأفق مفتوح، والإنجاز مستمر، والأبطال منكبون على كتابة التاريخ، والرؤية منارة تضيء الطريق إلى غد مشرق، من الثرى إلى الثريا.