يبدو الهواء في لندن عابقاً أحياناً بالدخان المنبعث من العوادم، وهذا دليلٌ على أن سيارات خارقة عادت لتطوف في أرجاء نايتسبريدج، فتمرّ بمتجر Harrods، وتهدر في شارع سلون، متهاديةً على الخطوط الصفراء المزدوجة، مطلقةً العنان لمحرّكاتها. نادراً ما تنطلق مسرعةً أو تندفع كلمح البصر في هذه الشوارع، إلا إذا طُلب منها ذلك، فالهدف هو التباهي لا أكثر. لكن، ما نفع سيارة خارقة إن لم يُلاحظها أحد؟
انتشر رصد السيارات الخارقة أول مرة في نحو عام 2010، وهو يقوم على الانتظار في الشوارع الراقية وتحيُّن الفرصة لالتقاط الصور للسيارات الفارهة. فما الذي يبحث عنه الراصدون؟ لكلّ واحدٍ منهم هدفه، ويبحث معظمهم عن سيارة سباق آمنة على الطرقات تنتقل من سرعة صفر إلى 60 ميلاً في الساعة في أقل من خمس ثوانٍ وثمنها أكثر من 100,000£. تُعدّ سيارة McLaren F1، وتُقدَّر قيمتها بنحو 16 مليون جنيه استرليني، من أفضل السيارات الخارقة في مختلف العصور بفضل محرّكها من طراز V12 وندرتها النسبية (صُنِع منها 106 نماذج فقط). وتصنّف Nissan GT-R التي يمكن أن تصل سرعتها إلى 200 ميل في الساعة سيارة "خارقة" أقلّ من بعض نظيراتها الأخرى بسبب سعرها، ويبلغ نحو 90,000£ فقط.


يمكن رصد السيارات في أي مكان، لكنّ منطقتَي نايتسبريدج ومايفير هما بمنزلة المحجّة في هذا المجال. تنتقل مئات السيارات، وأبرزها من طرازات Ferrari وLamborghini وBugatti، إلى لندن من الدول العربية، منذ الربيع حتى أيلول (سبتمبر)، هرباً من قيظ الصحراء. (تُقدّم شركة Autoshippers في المملكة المتحدة خدمة الشحن الجوي بسعرٍ يبدأ من 5,408£ للسيارة الواحدة). ربما يتمكّن الراصد المتفاني من رؤية 50 سيارة خارقة في اليوم خلال هذه الفترة من السنة، فيما يكون العدد في الشتاء نحو 15 سيارة. ويتمركز الراصدون خصوصاً عند الإشارات الضوئية مقابل محطة نايتسبريدج، وفي ساحة لاوندز وعند حافّة الطريق الفاصلة عن شارع بارك لاين. ابحثوا فحسب عن رجل (لأنه يكون رجلاً في العادة) يحمل آلة تصوير.
بلغني أن مجتمع الرصد مغلقٌ. أجوب هذه الشوارع في بحث دؤوب منذ ستة أشهر، معرِّضةً نفسي لمخاطر حركة السير ومتجاهلةً الطرقات المزدوجة الاتجاه، من دون أن أتمكّن من تكوين أي صداقات خلال جولاتي هذه. فمَن تحدّثوا معي فعلوا ذلك وهم مشتّتو الانتباه: فشائعٌ أن يغادرك أحدهم، في منتصف الحديث، لمطاردة سيارة Lamborghini زهرية. ونادراً ما يعود. ذات مرّة، انتظرت 20 دقيقة خارج متجر Harrods ليتمكّن جورج، وهو راصدٌ في الحادية والعشرين من عمره، من دخول الحمام، ثم اكتشفت لاحقاً أنه تهرّب مني وغادر من مخرج آخر.


نظرياً، ربما يبدو الرصد سهلاً، لكنّ العثور على "مضمون جيّد" يتطلّب اللجوء إلى بعض الحيَل. فعند رصد السيارات الخارقة، المضمون هو الأساس. إذا وقع نظرك على سيارة خارقة عند التقاطع حيث يلتقي شارعا سلون وبونت، اركض نحو إشارات السير قرب ساحة Cadogan Place وانتظر هناك، فستحصل على لقطة أولى حين تنطلق السيارة على الطريق. تعلّمتُ ذلك من وليام، وهو مهندس خمسيني تخلّف عن مجموعةٍ أكثر صخباً قرب فندق Millennium Hotel. إليكم معلومة أخرى: اكتبوا "liveupload#" في شريط البحث في موقع Instagram، وستجدون أماكن يلتقطون فيها صوراً وينشرونها. يرى الراصدون الجدّيون أن هذه الطريقة باتت من الماضي، لكنها نقطة انطلاق جيدة.
بدأ تيم بورتون (ليس مخرج الأفلام المعروف) – ولقبه Shmee150 – بتحميل صور السيارات على موقع Facebook في عام 2008، وسرعان ما جمع عدداً تراكمياً من المتابعين، وبات لديه الآن أكثر من 2.4 مليون مشترك في قناته بموقع YouTube، يدخلون لمشاهدته يختبر قيادة نماذج جديدة، ويلتقي عشّاق السيارات أمثاله، ويشارك، في إحدى المرّات، في موكبٍ للشرطة الكرواتية. لكن، أفضل ما يتميّز به Shmee هو مجموعته الخاصة من السيارات، وهي كناية عن متحف"Shmuseum" من 20 سيّارة تفوق قيمتها 8 ملايين دولار أميركي، ومعظمها مموَّل بإيرادات الإعلانات واتفاقات الرعاية والعمل الاستشاري لحساب علامات تجارية في عالم السيارات. يقول Shmee: "فكرة اقتناء Ferrari أو Lamborghini هدفٌ ملهم يصبو إليه الأشخاص في الحياة"، وهو من ابتاع أخيراً سيارة Lotus Emira First Edition باللون الأصفر الخردلي.

حوّل Shmee رصد السيارات الخارقة، وهي هواية غير شائعة نسبياً، إلى نشاط مربح. جميع مَن التقيتهم يعرفونه؛ وجميعهم يتطلّعون إلى مستقبل مشابه. خلافاً لراصدي القطارات الذين يستمتعون ببساطة بالنشاط التأمّلي لمراقبة خطوط السكك الحديدية، فإن معظم راصدي السيارات الخارقة يمارسون هذا النشاط للكسب الماديّ. يقول أندرو، 45 عاماً، الذي يعمل في مجال التسويق الإلكتروني ويرصد السيارات الخارقة منذ نحو أربع سنوات، إن الهدف هو تحقيق "الثراء والشهرة". في نهاية كل أسبوع، يأتي إلى نايتسبريدج لتصوير محتوى جديد لقناته الوليدة، "حتى حين تكون أصابعي متجمدة إلى درجة أنه يصعب علي الضغط على زر التسجيل"، يقول. حين يصل عدد المشتركين في القناة إلى 1,000 مشترك، ويصل مجموع ساعات مشاهدات المضمون إلى 4,000 ساعة في غضون 12 شهراً، يستطيع مالكها التقدّم بطلب للانضمام إلى برنامج شركاء YouTube. مَن يُقبَلون في البرنامج يكسبون نحو 4.20$ لكل ألف مشاهدة؛ ويُشار إلى أن عدد المشاهدات في قناة Shmee يفوق المليار. لكن الأهم هو أن أندرو يهوى السيارات حقاً، فهو يراقب سيارة Lamborghini Huracán STO تمرّ أمامه بعينَي العاشق المتلهّفتَين.
قيادة سيارة خارقة تجعلك تبلغ حالةً تتجاوز كل توصيف ومنطق وإنفاق عقلاني
يصعب التكهّن بالعلاقة بين الراصدين والسيارات الخارقة، لكن للحرّية دورٌ كبير فيها، فالسيارات كانت دائماً رموزاً للقدرة الشخصية على التنقّل. يُضاف إلى ذلك ثمنها بالملايين أو المليارات وأبواب مِقَصّية على طريقة Batmobile، فإذا بنا أمام نتائج لا تُقاوَم. يقول Shmee بحماسة شديدة: "السيارة شيءٌ عاطفيٌّ جداً. فالصوت والملمس – ما هي قادرة على تحقيقه، وما تتمتّع به من إمكانات – عوامل تأسر المخيّلة".
لا يوافقه الجميع الرأي، لا سيّما الأشخاص المقيمين في بارك لاين منذ مدّة طويلة. يدور صراعٌ موثَّق وطويل بين مالكي السيارات الخارقة وسكّان غرب لندن، وقد أنشأ عدد كبير منهم مجموعات لشنّ حملات ضد مَن يطلقون العنان لضجيج محرّكاتهم والشبّان الذين يقودون بسرعة فائقة. "لا نتمكّن من النوم قبل الثالثة أو الرابعة فجراً"، كما تقول كارن، من سكّان نايتسبريدج، لوكالة AFP الإخبارية في المراحل الأولى لانطلاق فورة رصد السيارات الخارقة. أضافت ابنتها ألكسندرا التي كانت تضع ظلاًّ باللون الأزرق الأرجواني على عينَيها وتتزين بقلادة من اللؤلؤ: "ترتفع نسبة هرمون التيستوسترون وتنخفض كثيراً في شارع سلون. إنها على الأرجح من المرّات القليلة في حياتي التي يسرّني فيها أن أكون صمّاء".
بمعزل عن التيستوسترون، لا شكّ في أن هناك تبجّحاً. غالباً ما أحاول حساب عدد السيارات الخارقة التي ضُبطت مخالفةً قواعد ركن السيارات، وسرعان ما أتوه في تعدادها. نجد على لوحة الأرقام الخاصة بإحدى السيارات المخالفة، وهي Lamborghini Aventador برتقالية اللون، عبارة "WE04 PON". وعلى سيارةٍ أخرى ملصقٌ يدعو المعجبين إلى متابعة مالكها عبر حسابه على موقع Instagram. خارج متجر Harrods، سألت عبد العزيز الذي يقود سيارة Ferrari قرمزية اللون، عمّا تتميّز به السيارة الخارقة ويجعل نبضات قلبه تتسارع، فأجابني: "لماذا تستيقظين في الصباح وتذهبين إلى العمل؟" يبدو واضحاً من جواب عبد العزيز أنه يفعل ذلك بدافع عشقه سيارته فحسب.
للراصدين المتفانين علاقات أفضل مع مالكي السيارات الذين يُعرَف عنهم أنهم يقدّمون لهم جولات في سياراتهم وينظّمون جلسات تصوير شخصية. ينصح Shmee، الذي اختبر هذه العلاقة من الجهتَين، بأن يكون الشخص "مهذّباً وودوداً"، والأهم من كل شيء، أن يحترم خصوصية المالك. يقول: "ثمة ما يغويك بالذهاب للاستكشاف حيث لا يجدر بك ذلك". تُحفَظ السيارات في حفنة من المرائب الخاصة الموزّعة في مختلف أرجاء المدينة، وأشهرها "كهف الخفافيش" السرّي التابع لشركة Windrush في غرب لندن. نتمنّى لكم التوفيق في الحصول على معلومات عن هذه المرائب.

حصد المصوّر الفوتوغرافي جوش سكوت، 21 عاماً، نجاحاً كبيراً بين مالكي السيارات الخارقة إلى درجة أنه قام بجولات في المرائب، ليس المرائب التي يملكها Shmee فحسب، بل أيضاً تلك التي يملكها المذيع الأميركي جاي لينو الذي يقدّم برنامجاً عن السيارات، ورائد الأعمال ريتشارد رولينغز مالك مرأب Gas Monkey Garage. سكوت من الذين يمكن وصفهم بأنهم من هواة الجمع، فقد أمضى أيامه الأولى متنقّلاً في أرجاء لندن حاملاً قلماً وورقة، مدوّناً ملاحظاته عن السيارات الخارقة وإصداراتها المختلفة. أوّل سيارة بارزة رصدها كانت Zonda Cinque، واحدة من 10 نماذج فقط جرى تصنيعها، ومنها سيارة Cinque Roadsters. حتى الآن، رأى أربعةً منها. يقول: "أرجو أن أتمكّن من رؤية النماذج العشرة كلها"، لكن هذا مستبعد نظراً إلى أن معظمها "يُحفَظ تحت الأرض، ويتكدّس الغبار عليها، لأنها نادرة جداً".
حين بدأ سكوت برصد السيارات في سن المراهقة، وجدها هوايةً يصعب تفسيرها. "لم أكن أتحلّى بالثقة بتاتاً لأخبر حتى أصدقائي المقرّبين"، كما يقول سكوت الذي يقود سيارة Ford Fiesta، فيما سيارته المفضّلة هي Ferrari 458. قادته تجربته إلى إطلاق سلسلة تتحدّث عن التنمّر والتمييز والصحة العقلية على منصّة Petrolheadonism لعشّاق السيارات. بالرغم من أن زمرة الراصدين الخارقين محكمة الإغلاق، يجد من ينجحون في اختراقها أن الصداقة أروع ما يقدّمه رصد السيارات الخارقة. "ترى الأشخاص أنفسهم أسبوعياً"، كما يقول توم، 16 عاماً، عن مئات المجموعات التي تنشأ عبر تطبيق WhatsApp. يجمع Shmee أيضاً الراصدين من خلال فعاليات منتظمة في مجال السيارات، وليس مفاجئاً أن يطلق عليها اسم Shmeetings ناحتاً مصطلحاً جديداً ألّفه من كلمتَي Shmee وmeetings أي اجتماعات.


نما مجتمع راصدي السيارات، فتطوّرت السيارات الخارقة أيضاً. ومع ازدياد نسبة ملكيتها في المملكة المتحدة بمقدار 20 بالمئة تقريباً في السنوات الأخيرة، عمدت العلامات التجارية إلى تعزيز تقنياتها سعياً وراء زيادة السرعة. "لم تعد الرؤوس تستدير لسيارات Ferrari المصنّعة في المصانع"، كما يقول بوثو شتين، مدير عام فندق The May Fair Hotel، الذي لمس جاذبية "السيارات المخصّصة والمصنّعة بناءً على الطلب مثل Aston Martin One-77، وPorsche 918 Spyder وBugatti Chiron" خارج فندقه. في شركة Lamborghini، حيث ارتفعت المبيعات العالمية بنسبة 10 بالمئة، سيّارة Sián FKP 37 (بسعر 2.6 مليون جنيه) التي أُطلِقت أخيراً مجهّزة بهيكل مصنوع بالألياف الكربونية ومحرّك V12 وزنتها 1,645 كيلوغراماً فقط. بيعت جميع السيارات قبل الكشف عنها. وما هو أكثر جموحاً نماذج محدودة الإصدار صنعتها Ferrari وMcLaren وAston Martin من دون سقفٍ أو حاجبٍ للريح.
ماذا تعني هذه التغييرات لمالكي السيارات الخارقة؟ قد يُخيَّل إلينا أن قيادة هذه السيارات هي تجربة مترفة. يقول Shmee ضاحكاً: "هذا هو الأمر غير المنطقي على الأرجح"، مضيفاً: "لكن الانطباع هو أن السيارة الخارقة تمنح عموماً شعوراً أقلّ بالراحة. تُصدر ضجيجاً أقوى، وارتجاجاً؛ والمقاعد ليست مريحة ووثيرة". مع ذلك، فإن قيادة سيارة خارقة تجعلك تبلغ حالةً تتجاوز كل توصيف ومنطق وإنفاق عقلاني. يتابع Shmee: "فإما أن تستوعب ذلك، وإما ألا تستوعبه".
لم "أستوعب" الأمر تماماً بعد، لكن لا شك في أنني أشعر بأنني أقرب إلى استيعابه. مَن يرصد سيارةً خارقة يلامس عالماً من الإمكانات اللامحدودة، حيث تكثر قصص النجاح ويُكافأ الطموح الجامح. خلف كل سيارة خارقة شخصٌ "صنعها"؛ وكل دورة محرّك هي هديرٌ للانتصار.
عدت إلى نايتسبريدج لمرّةٍ أخيرة في شباط (فبراير)، حين يخفت هدير السيارات ولا يُسمَع إلا في فترات متقطّعة. كانت الأشهر القليلة السابقة أشدّ هدوءاً من المعتاد، "فقد ذهبوا إلى موناكو"، كما يقول أندرو بحزن. صحيحٌ أيضاً أن السيارات الخارقة تستحوذ على مساحة آخذة في التوسّع على شبكة الإنترنت. فقد أطلق المقرّ الرئيس لشركة HR Owen في هاتفيلد، البالغة قيمته 30 مليون جنيه، موقعاً جديداً مضمونه غني. لكن "عرض السيارات المدوّية في وسط لندن"، كما يُسمّيه Shmee، سيكون دائماً الوجهة المفضّلة لراصدي السيارات. فهل من مكان آخر نجد فيه سيارات McLaren Senna بأعداد كبيرة تضاهي أعداد صناديق البريد الحمراء الزاهية؟