مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

إبداع ثنائي

في منزل الفنانة السعودية بسمة السليمان: "الثقافة توحدنا"

برأي بسمة السليمان وخبيرة المعارض بيرل لام، الصداقة المُشاكِسة تربةٌ خصبة تنمو فيها مجموعة فنّية استثنائية

بيرل لام وبسمة السليمان في منزل الأخيرة في لندن. على الجدار خلفهما لوحة Fresh and Fading Memories (ذكريات جديدة ومتلاشية) للفنان الغاني إل أناتسوي © جوشوا تارنبيرل لام وبسمة السليمان في منزل الأخيرة في لندن. على الجدار خلفهما لوحة Fresh and Fading Memories (ذكريات جديدة ومتلاشية) للفنان الغاني إل أناتسوي © جوشوا تارن

"التقينا لأنَّ بسمة وإحدى صديقاتي كانتا تقصدان محامي الطلاق نفسه!" تضحك صاحبة هذه الجملة، خبيرة المعارض بيرل لام، وصديقتها بسمة السليمان بحرارة وهما تجلسان في منزل السليمان اللندني المفروش بأثاث مثير للإعجاب والعامر بالأعمال الفنّية. تتذكّر لام خلال جلسة حول فنجان شاي لقاءهما الأول في عام 2004، فتقول: "قدّم المحامي صديقتي بسمة وقال لها: 'إن كنتِ تهوين جمع الأعمال الفنّية الصينية، فعليكِ أن تتعرفي إلى بيرل'".

حين التقينا، كانت لام مكلّلة رأسها بشعر أرجواني قصير يتحدّى الجاذبية ومرتدية كنزة صفراء، وهي تتابع الفنون الصينية منذ نحو ثلاثة عقود. في عام 1993، بدأت تجمع الأعمال الفنّية الصينية؛ وفي عام 2005، افتتحت معرضها الأول في شنغهاي، قبل أن تضيف منذ عام 2012 مساحة فنّية ثانية لصالات عرض Pearl Lam Galleries في مسقط رأسها هونغ كونغ، لتمثّل فنّانين محليين ودوليين أمثال رائد الرسم التجريدي الصيني تشو جينشي، والبريطاني-النيجيري ينكا شونيبار.

الثنائي أمام لوحة Hamdi & Hamada (حمدي وحمادة)، 2009، للفنان عادل السيوي © جوشوا تارن

أما السليمان، المولودة في المملكة العربية السعودية، فقد بدأت في جمع الأعمال الفنّية المعاصرة في تسعينيات القرن الماضي. أول مقتنياتها لوحة للرسام البريطاني دايفيد هوكني، وهي تملك اليوم أكثر من 800 عمل لفنانين عالميين مشهورين، أمثال آي واي واي وترايسي إمين وآندي وارهول، إضافة إلى فنانين سعوديين. انتقلت السليمان في عام 2000 إلى لندن وحازت شهادة الدبلوم في الفن الحديث والمعاصر من أكاديمية Christie’s Education. مذّاك، باتت مهتمة بالفن الصيني. فاجأ هذا الاهتمام بيرل لام التي تقول: "سعودية تجمع الفنون الصينية! أتعلم أن هذا الأمر كان غريباً جداً بالنسبة إليّ؟ فقد كانت تبتاع الأعمال الشعبية السياسية". تضيف وهي تهزّ رأسها: "كنت أسأل نفسي: 'لماذا؟!'".

سعودية تجمع الفنون الشعبية السياسية؟ لماذا؟!"

تجيب السليمان: "لأنها كانت مختلفة عمّا كنت أراه: كانت جديدة، إنسانية، وحقيقية". تضيف عاشقة الفنون التي لم تتعاون يوماً مع مستشار فنّي، والتي تعرّفت إلى الفن الصيني من خلال صديق: "اتّصل بي وقال: 'بسمة، ثمة فنان مذهل، أحبّ لوحته الفنّية لكنها كبيرة جداً لتتّسع في منزلي، هل أنت مهتمة برؤيته؟'" كان يو مينجون، المقيم في بكين، الشهير اليوم بلوحات Cynical Realist (الواقعي الساخر) الزيتية، والتي يصوّر فيها نفسه راسماً ضحكة شريرة على وجهه. اشترت السليمان لوحة Face on the Land (وجه على الأرض) في عام 2003 بمبلغ 40,000£. في عام 2007، عندما عرضت دار Sotheby's للمزادات في لندن لوحة يو البارزة لعام 1995 بعنوان Execution (إعدام)، والمستوحاة من مجزرة ساحة تيانانمن، بيعت بسعر قياسي بلغ 2,9 مليون جنيه، وهذا أعلى سعر مبيع لعمل فنّي صيني معاصر وقتذاك.

Dinosaur (ديناصور) للفنان سوي جيانغو © جوشوا تارن

تشرح لام: "بادر الناس إلى شراء الفن الصيني المعاصر في عام 1995". تضيف: "في مطلع الألفية، عندما كانت بسمة هناك، كانت تلك أوقات ممتعة ومثيرة للاهتمام. كانت ساحة الفن نابضة بالحياة، من دون أن تحظى بموافقة الحكومة، ولم يكن هناك سوى حفنة من هواة الجمع الصينيين، لذا كان السيّاح يقصدون المكان لشراء الأعمال الفنّية بوصفها تذكارات، نظراً إلى تدني أسعارها". إلا أن الوضع تبدّل بعد عام 2006، حين "ارتفعت الأسعار بشكل جنوني"، بحسب لام. قبل ذلك، كانت السليمان تسافر إلى الصين بانتظام، وتتعرّف إلى الفنانين خلال زياراتها ابنتها التي كانت تعمل في شنغهاي. لكنّها تعرّفت إلى لام للمرة الأولى خلال عشاء في لندن. سرعان ما حصل الانسجام بينهما، بسبب ما اختلفت آراؤهما عليه أكثر مما اتّفقتا حوله، على ما تقول لام. تشرح: "تحبّ بسمة الفن الشعبي السياسي؛ أما أنا فلا؛ إذ أعتبره التعريف الغربي للفن الصيني المعاصر. وتهوى بسمة الفن التشكيلي، على عكسي أنا. لكن عند الحديث عن الفن، الأفضل دائماً تعارض الآراء لا توافقها".

عند الحديث عن الفن، فمن الأفضل دائماً أن تتعارض الآراء لا أن تتوافق"

حملت أول قطعة فنّية اشترتها السليمان من لام توقيع شاو فان، وهي "كرسي صيني مفكّك، أعيد جمعه ليكون تمثالاً"، بحسب خبيرة المعارض الصينية. تضيف: "ثمّ اشترت عملَين فنيين تجريديَّين"، في إشارة إلى لوحتَين في منزل السليمان تحملان توقيع الفنان تشو جينشي المقيم في بكين، وهو أحد روّاد الرسم التجريدي الصيني، يغذّي لوحاته بطبقات سميكة من الطلاء. تقول السليمان واقفةً أمام لوحة ثلاثية كبيرة اشترتها في عام 2015: "إنه يستخدم مجرفة لرمي الطلاء. إنها غاية في الروعة، وعندما تتأمّل فيها كما لو كانت منظراً طبيعياً، يتجسّد هذا المنظر أمامك واقعاً محسوساً".

تحتلّ الأعمال التجريدية مساحة بارزة في منزلها، ويتصدّر عملان تبسيطيان متعدّدا الأطر غرفة الجلوس: الأول يتألّف من تسعة مربّعات زهريّة اللون من مادة بليكسيغلاس الشفافة، للفنان المفاهيمي الفرنسي دانيال بورين باسم Framed Colours, 9 Magenta Elements (ألوان مؤطرة، 9 عناصر أرجوانية) من عام 2007، والآخر سلسلة لوحات ثنائية الألوان باسم Hommage à Le Corbusier (تحية إلى لو كوربوزييه) من عام 2000، بريشة الرسام التجديدي الألماني غانثر فورغ. في زاوية أخرى من الغرفة، عمل عملاق للفنان الغاني إل أناتسوي، يتّخذ شكلاً متموّجاً بارتفاع نحو خمسة أمتار، صُنِعَ من أغطية زجاجات متّصلة بأسلاك نحاسية. عن هذا العمل تقول السليمان: "اشتريته في عام 2012، لكنني لم أره إلا حين انتقلت إلى هنا في أيار (مايو)". تضيف: "إنه أحد الأسباب التي دفعتني إلى شراء هذا المكان: كنت بحاجة إلى جدران كبيرة". وتبرز الأعمال الفنّية بشكل يتناقض قليلاً مع أثاث قديم يعود إلى القرن الثامن عشر، من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ومفروشات أوبوسون الفرنسية. تبتسم السليمان قائلةً: "بيرل لا تحبّ سجاداتي".

شاي وحلوى في أكواب وأطباق من بورسلين Herend © جوشوا تارن

المكان الآخر الذي تعرض فيه السليمان مجموعتها هو العالم الافتراضي. ففي عام 2011، أطلقت منصّة Basmoca، وهي متحف رقميّ يمكن التجوّل في داخله من خلال شخصيّة رمزيّة. تعود بها الذاكرة إلى ذلك العام: "كنت أرغب بشدة في مشاركة مجموعتي الفنّية، لكنّ فكرة إقامة مساحة فعليّة لذلك في موطني في السعودية كانت صعبة بعض الشيء وقتذاك". ففكّرت في ابتكار مساحةٍ لهذا الهدف ضمن منصة Second Life (حياة ثانية) الرقميّة التي تتيح اختبار حياة موازية في العالم الافتراضي، قبل أن تبنيَ في نهاية المطاف عالمها الافتراضي الخاص. 

تجمع الثقافة الناس من خلال لغة خاصة لا تحتاج إلى ترجمة"

تقول لام: "خاضت بسمة فعلياً تجربة الميتافيرس قبل أن يفعل أي أحد ذلك". تضيف السليمان: "لكنها كانت لغة جديدة بالنسبة إلى الناس؛ إذ لم يفهم أحد ماهيّة ذلك وقتذاك، وكان الأمر مبكراً جداً، فيما صار اليوم رائجاً". عرضت في العام الماضي جزءاً من مجموعتها الفنّية السعودية في معرض فعليّ، في مبنى مرايا العاكس الذي يشكّل تحفة فنية في الأودية الصحراوية في مدينة العلا التاريخية.

خاضت السليمان كذلك غمار عالم الأصول الرقميّة أو ما يُعرف بالرموز غير القابلة للاستبدال (NFT). وهي تشير إلى شاشة معلّقة على الجدار، وتقول متحدثة عن عمل رقميّ للفنان الإيطالي دايفيد كوايولا: "إنه يشبه لوحة مونيه Water Lilies (زنابق الماء)". العمل يُعرض على الشاشة بشكل متحرّك ومتكرّر، محاط بجدار من لوحات البورتريه، معظمها "كلاسيكية"، لكنّ واحدة منها برأس قطة. وتقول السليمان مشيرة إلى لوحة الرسام كيو تشي المولود في شنغهاي: "مفترضٌ أنه ماو".

Little Red Book Series (سلسلة الكتاب الأحمر الصغير)، 192 قطعة من الخزف للفنان تشو ييهوي © جوشوا تارن

تقول لام: "ليس معتاداً أن يشتري هواة جمع الأعمال الفنّية رموز NFT؛ إذ ليست هذه موثّقة من المتاحف"، مضيفة أن انهيار العملات المشفّرة في العام الماضي انعكس سلباً على سوق هذه الرموز. وإذ تلفت إلى أن هذه الأصول الرقميّة ستبقى حاضرة في أوساط الأجيال الشابة من الفنانين وهواة الجمع، تضيف: "ثمة فنانون شباب يبيعون أعمال NFT في مقابل 50$ أو 100$. إنها ديمقراطية الفن. وإن لم تكن رموز NFT، فإنّ شكلاً آخر من التكنولوجيا سيبصر النور".

فيليب كولبير، الذي يسمّي نفسه "رائد الميتافرس"، هو أحد الفنانين الذين تمثّلهم لام. في العام الماضي، أطلق هذا الفنان المقيم في لندن مشروع NFT بعنوان The Lobstars. وأحد الفنانين الذي ترغب لام في تقديمه إلى السليمان هو "مستر دودل"، وهذا هو الاسم الفنّي للبريطاني سام كوكس الذي غطّى منزله في منطقة كينت بالكامل بالرسوم المنمنمة التصويرية الشبيهة بالغرافيتي؛ وحظي الفيديو المصوّر بحركة متقطّعة بملايين المشاهدات على موقع YouTube. تقول السليمان متوّجهةً إلى لام: "اطّلعت على أعماله بعدما أخبرتِني، وهي مختلفة جداً ومثيرة للاهتمام...".

"أعرف أن بعض هذه الأمور قد لا يتوافق مع معاييرك الجماليّة"، تجيب لام، مضيفة: "لكنني أظن أنها مثيرة للاهتمام؛ إذ تعكس توجهات الجيل الجديد من الفنانين. علينا أن نكون منفتحين ذهنياً، والهدف من وراء إقامة معرضي هو الترويج للتبادل الثقافي". 

"خاضت بسمة السليمان فعلياً تجربة الميتافيرس قبل أن يفعل أي أحد ذلك"

تصف كلّ من السيّدتَين الأخرى بأنها "واسعة الأفق"، وهما تسافران في الغالب معاً لزيارة المعارض الفنّية واكتشاف الفنانين الجدد. ومنذ سنوات قليلة قصدتا اليابان، وزارتا طوكيو تحديداً وجزيرة ناوشيما برفقة أصدقاء. وفي العام الماضي، ذهبتا في رحلة إلى المملكة العربية السعودية، فكانت الزيارة الأولى بالنسبة إلى لام. اكتشفتا كذلك فنانة جمعهما الشغف بأعمالها، وهي مها الملّوح. تقول السليمان وهي تسير في اتجاه منحوتة صُنِعت من أواني طهي قديمة مطلية بالمينا: "ترتكز أعمالها على أشياء عُثِر عليها، وتتمحوَر حول الذكريات والتاريخ". ثمة فنان آخر يتّفق ذوقهما عليه، وهو باباجيد أولاتونجي الذي التقياه في معرض Art Dubai، وقد اشترت لام فوراً أحد أعماله، وهو بورتريه بالفحم والباستيل واقعي بشكل يفوق التصوّر لجليسة أطفال خياليّة. تعرض لام أعمال الفنان النيجيري في قاعتها في شنغهاي هذا العام، في وقت تزيّن لوحة أخرى له جداراً في منزل السليمان (اشترتها من خلال دار Sotheby's في مقابل 10,000£).

من الأعمال الأخرى ضمن مجموعة السليمان، لوحات تشخيصية للفنان المصري عادل السيوي Hamdi & Hamada (حمدي وحمادة) من عام 2009 وجوناثان ووتريدج المقيم في نورفولك. لكن، مثلما ترى لام نفسها صلة وصل بين هواة الجمع وشريحة متنوّعة من الفنانين في الصين، فإن غاية أحلام السليمان نقل مجموعتها المميزة إلى معرض دائم في المملكة العربية السعودية، بعدما صارت في عام 2014 أول امرأة تحصل على جائزة حكومية تقديراً لمساهماتها في المجالات الفنّية والثقافية في البلاد. تخلص إلى القول: "الثقافة توحدنا". تضيف: "تجمع الثقافة الناس من خلال لغة خاصة لا تحتاج إلى ترجمة".

3 تعليقات

شارك برأيك