مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

فنون

فن رقمي ذو رسالة سامية

يُعرفنا رفيق أناضول بتراث شعب ياواناوا بأعمال فنية رقمية وأخرى أنشأها بالذكاء الاصطناعي، استوحاها كلها من تراث هذا الشعب الأمازوني وتقاليده

رفيق أناضول ©HOFA رفيق أناضول ©HOFA

"لا نؤلف ديواناً رقمياً للذاكرة الإنسانية يحفظ الثقافات البشرية من الاندثار فحسب، بل نستوحي هذه الثقافات لنبتكر منها وسائل تعبير مختلفة". بهذا عرّف الفنان الرقمي الرائد رفيق أناضول بأحدث مجموعة فنية رقمية ومنشأة بالذكاء الاصطناعي، حققها أخيراً بالتعاون مع مجتمعات ياواناوا الأصلية في قريتي ألديا ساغرادا ونوفا إسبيرانسا بالبرازيل.

عمل فني بعنوان Winds of Yawanawa (رياح ياواناوا)، من ابتكار رفيق أناضول ©Refik Anadol & The Yawanawa

قبل ساعات، وفي مساء 13 تموز (يوليو) الجاري بالتحديد، انطلق برنامج In Resonance تحت مظلة Encounters، في شراكة مبتكرة عقدها رائدا الفن والتقنية (HOFA Gallery (The House of Fine Art وScorpios في ميكونوس باليونان، هدفها استكشاف أبعاد التفاعل بين الفن المعاصر والموسيقى. حتى لحظة إطلاق البرنامج، كانت Encounters مجلة إلكترونية تصدرها Scorpios، تمثل مساحة حرة للنقاش في مسائل متصلة بالتغيرات الجذرية التي تمر بها الشعوب. اليوم، ها هي تنتقل إلى تجربة جديدة. في Scorpios، ولسبعة أسابيع تنتهي في 3 أيلول (سبتمبر) المقبل، تجمع HOFA Gallery، وهي صالة عرض لها فروع في لندن ولوس أنجليس وميكونوس، فنانين وموسيقيين معاصرين يتفاعلون إبداعياً في جو يهيمن عليه الفن الرقمي. يقول إليو دانا، الشريك المؤسس والمدير الإبداعي في HOFA إن برنامج In Resonance  تعددي جامح "يجمع فناني الذكاء الاصطناعي البارزين والموسيقيين المشهورين في رحلة لاستكشاف الروابط الوثيقة بين الفن والموسيقى، باعتبار كل منهما انعكاساً للآخر ومكملاً وتطوراً طبيعياً له". أما الافتتاح فثمرة لقاء أناضول، الفنان الأميركي المتحدر من أصول تركية، مع شعب ياواناوا في أمازونيا.

نساء ياواناما في قريتهن ألديا ساغرادا © كاميليا كوتينيو من خلال Impact One
نساء ياواناما في قريتهن ألديا ساغرادا © كاميليا كوتينيو من خلال Impact One

 

يعرف أناضول شعب ياواناوا تمام المعرفة. زاره في قراه، فأدهشه كيف حفظ أفراد هذا الشعب، ولا يتجاوز عددهم 1,200 نسمة، ثقافتهم وتراثهم وتقاليدهم من الضياع لآلاف السنوات، وأدرك أنه – بصفته فناناً – مطالبٌ بالعمل على منع اندثار هذه الثقافة وهذه التقاليد، "خصوصاً أننا نعيش اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي، وهذا ما يمدّنا بأدوات أحدث تقنيةً لتنفيذ هذا الأمر"، كما يقول، مضيفاً: "من هذا اللقاء الثقافي المعرفي بشعب ياواناوا، نريد أن نطلق العنان لحسّنا الإبداعي، مستلهمين من ثقافته ما يمكننا أن نوظفه في الذكاء الاصطناعي لنؤلف أعمالاً فنية غير مسبوقة، تتكلم لغة تقنية جديدة، وتعبّر عن مشاعر إنسانية عميقة الجذور، وتسعى إلى تخليد تراث هذا الشعب". كان بيراسي نيكسيواكا ياواناوا، زعيم شعب ياواناوا المستقر في القرية المقدسة، ممتناً جداً مما يسعى إليه أناضول. يقول: "إنها لحظة تجلٍ، إنه ضوء في ظلمة تحمَّلنا مشقتها طويلاً، منذ أول اتصال بالرجل الغربي، وما رأينا طريقاً للسير معه، جنباً إلى جنب. اليوم، يمدنا رفيق أناضول بهذا الذكاء الاصطناعي، ويدعونا لنقدّم فننا للعالم، فننا المتحدر منذ أيام أسلافنا، من علم الكونيات الذي نحتكم إليه، من صميم ثقافتنا".

رجل من قبيلة ياواناما في قرية ألديا ساغرادا © FilipeFoto لصالح Impact One
أحد رجال ياواناما يغطي جسد طفله بطلاء طقسي في قرية ألديا ساغرادا المقدسة © كاميليا كوتينيو من خلال Impact One

في الذكاء الاصطناعي، الفردية لا تفيد. يقول أناضول: "نحتاج فعلياً إلى ذكاء جَمعي، وإلى حكمة جَمعية. ذكاء هذه الشعوب الأصلية متقدّم جداً، وملهمٌ جداً، وتثقيفي جداً. فأن أستمع إليهم، وأن أعيش حياتهم، وأن أنقل للعالم كله أسرار ثقافتهم بطريقتي الخاصة، معتمداً الفن الرقمي أو الفن المنشأ بالذكاء الاصطناعي، هو أساس هذا المشروع". وعلى هذا الأمر يعتمد أناضول كي يوصل صورة واضحة لهذه الثقافة الجمعية بالتقنيات الحديثة إلى العالم. يتابع: "إنه فن رقمي ذو رسالة بشرية سامية". يعقّب دانا: "محور المسألة بنظري هو تعزيز الوعي بثقافة شعب ياواناوا، وبتراثه الغني، وقد شارك رسامون شباب من هذه المجتمعات في بلورة الأفكار التي حولها أناضول إلى أعمال فنية لا سابق لها". بحسبه، أفضل استخدام للذكاء الاصطناعي هو الذي يعرّف الشعوب بعضها إلى بعض، ويلمّها بعضها إلى بعض". ويتفق أناضول ودانا على خطأ الاعتقاد أن الفن لا يتمتع بالتأثير الكافي لإحداث تغيير ما في العالم، "فهذه مقولة لا أعترف بها"، كما يقول أناضول.

"في الفن، الذكاء الاصطناعي يتمم العقل البشري ولا يقوم مقامه"

ربما يختلف هذا التأثير من منظور إلى آخر، لكنه موجود، وهذه حتمية لا يمكن تخطّيها بأي طريقة، خصوصاً أن أناضول يصرّ على أن ما فعله في أمازونيا، وما يفعله اليوم في برنامج  In Resonance من Encounters تظهير فعلي لأنسنة الفن الرقمي. يقول: "مجموعتي مستلهمة كلها من مجتمعات ياواناوا الأصلية، تتداخل فيها أنماط موجودة أصلًا في حياة هذه المجتمعات اليومية، مهما ذهبنا بعيداً في حداثة التقنيات التي نستخدمها. فذكاء هذه الأعمال جلي في رابطتها الوثيقة بهؤلاء الناس وبحياتهم البسيطة". ما كان هذا ليتم إلا بتيسير من مبادرة Impact One الاستثمارية التي ترعى مشاريع متصلة بالابتكار والثقافة ورفاهية الإنسان وعلاقته بالبيئة. فمشروع أناضول جزء من برنامجها Possible Futures، كيف لا وأناضول يستكشف عميقاً العروة الوثقى بين الوعي البشري والطبيعة. يذكر هنا أن أناضول وImpact One قد تبرعا بحصتيهما من عائدات هذا الحدث المميز لتمويل مبادرات طويلة الأجل مخصصة لحماية تراث شعب ياواناوا. 

عمل فني بعنوان Sense of Healing (حس الشفاء)، من ابتكار رفيق أناضول © Ikona Collection

لا شك في أننا نشهد عصراً فنياً جديداً، مع تطور العالم الرقمي، وانتشار الفن المنشأ بالذكاء الاصطناعي. وهذا عصر يفرض، بحسب أناضول، اتجاهات جديدة في الفن نفسه، كما في تجارة الأعمال الفنية. يقول: "مشروعنا يقوم على تقنية Blockchain، كأي مشروع آخر يدخل في باب الفن الرقمي، لأن الفنانين الرقميين يوظفون برمجيات ولوغاريتمات وبيانات رقمية متطورة لإنتاج أعمال فنية مميزة". فتقنية Blockchain أرضية خصبة لتوليد أفكار مبتكرة، تمدّ الفنان بالقدرة على الإبداع، وتتيح لشعب ياواناوا أن يكون له فنه الخاص، وأن يعبّر عنه. يقول زعيم شعب ياواناوا: "شراكتنا مع أناضول تقوي مجتمعنا، تعزز ثقافتنا، تسمو بروحانيتنا، وتمنحنا القوة لحماية وجودنا، وتؤكد لنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، إنما لنا حلفاء في أرجاء المعمورة. وهذا الشعور يقوي عزيمتنا". ومجرّد تسخير الفن الرقمي والفن المنشأ بالذكاء الاصطناعي لخدمة قضية إنسانية هو نقطة بداية لاتجاه جديد في عصر الفنّين الرقمي والذكي. يقول دانا: "ما ننجزه اليوم سابقة بكل المقاييس، ونتطلع إلى أن يكون مثالاً يحتذي به فنانون كثيرون، ليتركوا بصمتهم الرقمية في الحياة الإنسانية"، تماماً كما يتمنى زعيم هذا الشعب الأمازوني.

عمل فني آخر يحمل العنوان نفسه، Sense of Healing (حس الشفاء)، من ابتكار رفيق أناضول © Ikona Collection

في هذا الحدث غير المسبوق، ثمة أدوات تقنية حصرية تُستعمل أول مرة. يوضح دانا أن هذه الأدوات استخدمت لجمع البيانات اللازمة كي ينشىء أناضول أعماله الفنية الرقمية. يقول: "تم جمع ملايين النقاط البيانية، وقد حللها الذكاء الاصطناعي. حصلنا حتى على بيانات المناخ في مواقع استقرار شعب ياواناوا، كي يستخدمها أناضول في ابتكار أعماله الفنية الرقمية". هذا تطور يرى فيه أناضول سبيلاً تحررياً للفن الرقمي من قيود الأفكار المسبقة، وللفنان الرقمي الذي لا يمسك ريشة وألواناً، إنما سلاحه برامج رقمية في حاسوب سريع. كما يرى فيه اتجاهاً جديداً في مسألة تجميع الأعمال الفنية، فالإبداع الفني المتصل بالذكاء الاصطناعي يجذب الانتباه العالمي اليوم. يقول أناضول: "أنا أول جامع لهذه الأعمال". يضيف: "أدرك الجميع أن في الفن، الذكاء الاصطناعي يتمم العقل البشري ولا يقوم مقامه. وما نشهده اليوم هو منعطف مهم جداً في تاريخ البشرية".

"إننا أمام عصر بلغت فيه التعددية الفنية أوجاً غير مسبوق، وهذا لا يدعونا إلى الحذر، إنما إلى التفاؤل"

بكلمة أشد تعبيراً، يسمي أناضول هذا المنعطف "ثورة"، بينما يسميها دانا "ارتقاءً". في مجتمعات ياواناوا، الطبيعة بذاتها ذكاء اصطناعي، وعلاقة هؤلاء الناس بطبيعتهم وبيئتهم ذكاء اصطناعي. يقول أناضول: "حين أخبرتهم كيف يوظف الذكاء الاصطناعي بيانات من مصادر موجودة ليقدم لنا معلومةً موثوقة، لم يجدوا فهم الأمر صعباً. إنه يشبه المرآة التي تعكس كيف نعيش، كيف نفكر، كيف نتخيل. هذا ما كانوا يفعلونه بالضبط مع الطبيعة حولهم، لكن بشكل أبسط كثيراً، وأقل تعقيداً". في نهاية المطاف، هذه الثورة التي نعيشها اليوم متجذرة فينا من دون أن ندري، وهي تؤكد أن الفن هو أساس في هذه الحياة، وهو ما يستشرف المستقبل ويبلوره. يستدرك أناضول: "بل هو المستقبل". بالتأكيد، يقول دانا بلا تردد، معلناً أنه من أوائل المستثمرين في هذا "الارتقاء" الفني.. وفي هذا المستقبل. يقول: "In Resonance مثال حقيقي وحيّ. جمعت HOFA Gallery فنانين رقميين من جميع أنحاء العالم، يتعاونون مع موسيقيين معاصرين يؤدون موسيقاهم في Scorpios، وينضم إليهم جمهور ربما يعرف قضية شعب ياواناوا، أو سيتعرف إليها من خلال أعمال أناضول. أرى في هذا استثماراً مجدياً". بالنسبة إليه، هذه مسألة منطقية، نابعة من إيمانه بأن الفن الرقمي والمنشأ بالذكاء الاصطناعي لن يلغي "أبداً" الفن التقليدي. يضيف دانا: "إننا أمام عصر بلغت فيه التعددية الفنية أوجاً غير مسبوق، وهذا لا يدعونا إلى الحذر، إنما إلى التفاؤل".

موسيقيون في Scorpios بميكونوس في عام 2022 © فيفيك فادوليا

في البرنامج نفسه، تشارك إيفونا تاو، الفنانة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي والمعروفة بتصويرها التجريبي ولوحاتها المتحركة باستخدام بيانات فوتوغرافية غنية (23-24 تموز (يوليو)). في هذا البرنامج، تعاونت تاو مع المايسترو الإيقاعي جان كلود آدِس، واستخدمت بيانات ضوئية جمعتها في جزيرة ديلوس (24 - 25 تموز (يوليو)) من برنامج الصيف الطويل. في 4 و5 آب (أغسطس)، يتعاون الفنان الرقمي الأذري أورهان مع لانكا، المدير الموسيقي في Scorpios، لتقديم عمله الجديد من مجموعته Relic، التي يستكشف فيها التراث الثقافي الشرقي. وفي 10 و11 آب (أغسطس)، يقدم فنان الضوء الأسترالي جايسون سيمز تجربة استكشافية ضوئية للأنظمة الطبيعية. في 24 و25 آب (أغسطس)، يقدم الفنان والموسيقي البيولوجي الفرنسي أجوريا عملًا فنيًا جديدًا ابتكره بالدمج الحسابي بين بيانات غروب الشمس في ميكونوس، فيما يقدم الفنان الرقمي النيوزيلندي جيسي وولستون في 31 آب (أغسطس) و1 أيلول (سبتمبر) أعمالاً فنية أنشأها بالذكاء الاصطناعي، تناول فيها موضوعات المعرفة والمعتقدات الروحية وتغير المناخ. كذلك، يشارك فنانون وموسيقيون مميزون آخرون في هذا الحدث، بينهم الراوي البصري هوغو جونسون الذي يقدم مع فرقة Bedouins، المعروفة بدمجها صوتيات الشرق والغرب، عرضاً تعاونياً يسمى Zorba، يعيد فيه تخيل الظواهر المناخية القاسية، مستخدماً سيلاً من البيانات الجغرافية.

0 تعليقات

شارك برأيك