مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

علامة فارقة

صابون شركس: رائحة الأصالة العربية

مصنع يدوي للصابون الطبيعي في طرابلس بزيت الزيتون البكر، "لم تلوّثه الحداثة التقنية"، يستكشفه غاندي المهتار

صابون بشكل عصفور، بسعر 3$ صابون بشكل عصفور، بسعر 3$

بعد قلعة طرابلس الأثرية نزولاً نحو اليسار، يلوح باب الحديد، ومنه الولوج إلى سوق النحاسين الأثرية في المدينة. هناك، في الجزء الأول من السوق ينتصب خان المصريين. ما إن دخلته حتى شدّتني رائحة الصابون القوية إلى الطابق الثاني فيه. تسلّقت الدرج الحجري القديم لأجدني في مصنع للصابون قديم لم تصل إليه التكنولوجيا بعد، أو كما أخبرني محمود شركس: "لم تلوّثه الحداثة التقنية".

بهذا المقطع اليدوي القديم يقطع الصابون قطعاً صغيرة
أبراج من الصابون مختلفة الطيب في إحدى زوايا المصنع في طرابلس

محمود هذا رجل في أوائل سبعينياته، يمثل الجيل الثامن في آل شركس، صنّاع الصابون البلدي، تسلّم المهنة من والده في عام 1967، "وهذا ولدي أحمد بجانبي هنا، سيحمل اللواء من بعدي ليمثل الجيل التاسع في العائلة". يدلّني إلى شاب في مقتبل العمر، يقف بدراية فوق آلةٍ قديمة في غرفة داخلية لها باب خشبي يبقى مغلقاً على أسرار هذه المهنة. يروي محمود: "أتى جدّنا الأول إلى هذه المدينة في عام 1803، ونحن باقون هنا إلى الأبد". يتحدّر آل شركس من منطقة شركيسيا القوقازية قرب البحر الأسود. اصطدم الروس هناك بالعثمانيين في أوائل القرن التاسع عشر، فاندلعت حرب ضروس هجّرت العائلة من مسقط رأسها. يروي محمود: "كانوا 12 شقيقاً، توزّعوا في أصقاع الأرض. أحدهم وصل إلى طرابلس الشام وكانت واحدة من أهم مدن الإمبراطورية العثمانية. استقرّ هنا، وبدأ يصنع صابوناً". أقام الجدّ الأول مصنعه في خان المصريين، وهذا خان بناه المماليك في عام 1320. يقول محمود: "موقعه استراتيجي، يشرف على طريق يصل بيروت بحمص وآخر يصل ميناء طرابلس بدمشق. ربما هذا ما دفع جدّي الأكبر إلى اختيار المكان مقراً لصناعته ومنطلقاً لتجارته".

محمود شركس في مصنعه للصابون البلدي في طرابلس، لبنان

هنا، الأنف يعشق قبل العين أحياناً. فمن رفوف خشبية بسيطة، وصابون وضّب في أكياس غير متكلّفة، ينبعث طيب قلّما تشمّه في أي مكان آخر. إنه ذاك المزيج بين رائحة زيت الزيتون الصافي البكر وأريج الخزامى والغاردينيا والورد والياسمين والقرنفل والنعناع والعسل (ابتداءً من 1$ لكل قطعة صابون). يقول محمود: "في الماضي، كان المصنع ينتج الصابون بلونين فقط: الأبيض والأخضر. اليوم، نصنع الصابون بأي شكل ولون وطيب نريد، من دون أي إضافات كيميائية غير طبيعية". سرّ وحيد يبوح به: "نستخدم زيتاً صافياً، معصوراً من أجود أنواع الزيتون، نأتي به من كروم منطقة الكورة المجاورة، ثمنه أضعاف ثمن الشحم الحيواني الذي يستخدمه مصنّعو الصابون التجاري".

صابون شركس موضّب في أكياس عادية لتخفيف الإنفاق
صابون كروي تتباهى عائلة شركس بأنها أول من صنعه يدوياً
عنقود عنب من الصابون صنعه محمود شركس بيديه، بسعر 6$

لا يهمّ أن تكون ثرياً، المهم أن تعيش حياة ثرية، وأن تترك أثراً طيباً، تماماً كهذا الصابون"

يتباهى محمود شركس بأن مصنعه ما زال على حاله كما في يوم تأسيسه، أي منذ نحو 220 عاماً. "لم نغيّر فيه شيئاً، ولن نغيّر.. إلى حين"، يقول. أإلى حين ميسرة؟ يجيبني قاطعاً: "أبداً. عسى ألا نحتاج هنا إلا لسواعدنا". بالضبط. فهذا مصنع لا يعرف المكننة، والعمل فيه يدوي كله. الجرن حديدي مربّع، يقف عليه أحمد متتلمذاً على أبيه مكتسباً كل معارفه في هذه "المصلحة"، كما يسمّيها. يقول: "هنا نمزج الزيت بمادة ’الكوستيك‘ على البارد". والكوستيك هذه هي الصودا الكاوية التي تساهم في تحجّر الصابون. يضيف: "ثم نصبّ عجين الصابون في قوالب حديدية ونتركه يوماً كاملاً، قبل أن نقطّعه في اليوم التالي مربّعات أو مثلّثات بمقطع يدوي أيضاً، نرصفها على رفوف خشبية في مكان بارد شهرين كاملين لتجفّ تماماً قبل توضيبها أو تكييسها وبيعها". السكاكين المستخدمة متهافتة، إلا أن محمود يأبى التخلي عنها: "بها نبشُر الصابون، وبها نصنع صابوناً كروياً". يسكت قليلاً، ثم يقول: "نحن أول من صنع في لبنان صابوناً على شكل كرة مستديرة ملوّنة". لا قوالب جاهزة هنا إلا المربّع والمثلّث، فماذا إذاً عن صابون يتّخذ شكل عصفور، أو مسبحة، أو عنقود عنب؟ ينظر محمود إلى كفّيه المتعبتين: "بهاتين ننحت الشكل الذي تريد!".

لوح صابون بشكل كفّ يعلّق ليفوح منه العطر في الغرفة

ليس هذا المصنع القديم مقصداً للبنانيين وحدهم، بل تأتيه أفواج سياحية من خارج لبنان، خصوصاً أن صيته ذاع بعدما زاره سفراء دول أوروبية عدة لدى لبنان وسورية، فترى صوراً لهم معلّقة في أرجاء المصنع. يقول محمود: "يأتون مرة، ويعودون ألف مرة". الجزء الوازن من إنتاج المصنع يذهب إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية، وربما لهذا تأثّر المصنع بالأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان حالياً أقلّ ممّا تأثّرت حِرَف أخرى، تعتمد على السوق المحلية حصراً. أهمّ بالمغادرة، فيبادرني محمود شركس بصابون مجبول بعسل النحل الصافي، قائلاً: "لا يهمّ أن تكون ثرياً، المهم أن تعيش حياة ثرية، وأن تترك أثراً طيباً، تماماً كهذا الصابون".

0 تعليقات

شارك برأيك