إنها الثانية فجراً في حفل Vienna Philharmonic Ball. تجمّعَ حشدٌ لأداء الرقصة التربيعية الأخيرة، وهي رقصة من القرن السابع عشر تؤدّيها صفوفٌ مقسّمة في ثنائيات. تفوح من الهواء رائحة العرَق والزهور والنقانق. الأرض ملمّعة جداً فتبدو كأنها مغلّفة. في إحدى الزوايا، يمسك رجلٌ بردف زوجته كأنه بيضة من دار المجوهرات Fabergé. ويعيد نادلٌ قريب دلو شمبانيا مقلوباً رأساً على عقب إلى وضعيّته الصحيحة. يحقّق الحفل نجاحاً باهراً بكل المقاييس.
كان حفل Philharmonic Ball الراقص الذي أُطلِق في عام 1924 وسيلةً تتواصل الأوركسترا من خلالها مع المجتمع الفييني، ولا يزال. إنه واحدٌ من أكثر من 400 حفل راقص تشهدها المدينة شتاءً، ويعدّه كثيرون المحطة الأبرز خلال الموسم. الحفل الذي أُقيم في كانون الثاني (يناير) الماضي، وحضره ثلاثة آلاف شخص، هو الأول منذ عام 2020. وكانت الأجواء فيه أقرب إلى التئام شمل عائلي.

© Pressephoto Fayer-Schikola/Historic Archives of the Vienna Philharmonic
ترتبط ثقافة الحفلات الراقصة في النمسا بالكرنفال الكاثوليكي أو ما يُعرَف بـfasching الذي تمتدّ احتفالاته من 11 تشرين الثاني (نوفمبر) حتى أربعاء الرماد (22 شباط - فبراير). انطلق هذا الموسم الاحتفالي بعدما حظرت الأمبراطورة ماريا تيريزا (1717-1780) الاحتفالات في الشوارع، فأُقيمت مئات الحفلات في الأماكن المغلقة، معظمها مرتبط بالمهن: احتفالات الصيّادين واحتفالات المحامين واحتفالات منظّفي المداخن، وهي جميعها تقريباً مفتوحة أمام العامة. وتؤمّن هذه الاحتفالات للمدينة مصدر رزق هائلاً؛ إذ وصلت العائدات في هذا الموسم إلى نحو 170 مليون يورو.
لا يمكنك الهروب من الموسيقى في فيينا"
الآن، أكثر من أي وقت مضى، يتغير المشهد. فكانت جائحة كوفيد- 19 من جهة، وصارت قائمة الضيوف أكثر عصرية، وأقلّ اهتماماً بالفالس وبالفتيات الشابات، من جهة أخرى. يقرّ ماكس، الضيف الشاب في Philharmonic وهو راقص يلفت الأنظار، باعتزاز وتعاسة على السواء: "إننا نوعٌ مهدَّد بالانقراض". ماكس مبتدئ سابق في Opera Ball الراقص المرموق، ويستقطب أداؤه في رقص الفالس اهتماماً كبيراً في حلبة الرقص. نسمعه يصرخ وسط الحشود: "لا يمكنك الهروب من الموسيقى في فيينا".
التقيت سيلفيا كارغل، موظفة الأرشيف في Vienna Philharmonic، على طبق من شريحة لحم البقر في فندق Hotel Imperial، فشرحت لي قواعد الرقص. كان حفل Philharmonic Ball الراقص، إلى جانب الفعاليات الكبرى الأخرى، يُقام دائماً ليلة خميس انطلاقاً من الافتراض أن لا عمل في اليوم التالي. (كانت الفعاليات المرتبطة بهذا القطاع تُجرى في العادة خلال نهاية الأسبوع). والأهم هو ألا تُقام الولائم. تقول كارغل ممتعضة: "لا يُنظَّم أبداً حفل راقص في النمسا مع عشاء". بدلاً من ذلك، تُقدَّم وجبات خفيفة، "كالنقانق مثلاً".


في الأعوام الأخيرة، أثار موسم الحفلات الراقصة الاهتمام بعد وقوع صدامات بين المحتجين وحزب الحرية اليميني النمساوي، وهو من الجهات الراعية لحفل Academics' Ball المعروف بموقفه المناهض للإسلام. ردّت جهات منظِّمة أخرى، لا سيّما حفل Ball of Sciences، بطمأنة العالم إلى "تنوّعها وانفتاحها". دفع ذلك بحفل Opera Ball، تديره الدولة ويستقطب عدداً يصل إلى خمسة آلاف ضيف، إلى إطلاق مبادرة لجمع التبرّعات. تقول مديرة التسويق سوزان أثانسياديس: "للمرة الأولى، يطلق الحفل الراقص بادرة تصبّ في إطار المسؤولية الاجتماعية"، مشيرة إلى "تحدّيات جديدة"، بما فيها الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة في أوروبا.
في قاعة الديسكو في الدور السفلي، ينسّق عازف الكمان الأول في الفرقة الأغاني الرائجة للجمهور الشاب
حفل Philharmonic تغيّرَ أيضاً، أو بالأحرى "تطوّر"، كما يقول رئيس مجلس إدارته (وعازف التوبا الرئيس في الأوركسترا) بول هالواكس. ومن أبرز سمات هذا التطور قاعة ديسكو في الدور السفلي، حيث ينسّق دي جيه إل روك (المعروف أيضاً بأنه أوّل عازف كمان في الأوركسترا) أغاني عصرية رائجة لجمهور أكثريته من الجيل "زد". أما أهمّ التغييرات فتجلّت في مشاركة ثنائيات مثلية للمرة الأولى في هذا العام في عرض المبتدئات. لكن على الثنائي مراعاة شروط الزيّ، بحيث يرتدي أحدهما ثوباً أبيض فيما يرتدي الثاني بزةً مع سترةٍ بذيل.

تبدأ الاستعدادات لحفل Philharmonic الذي يُقام في مبنى Musikverein العائد للقرن التاسع عشر، قبل أربعة أيام من الحدث. اصطحبني هالواكس في جولة عبر شبكة من الغرف والقاعات والطوابق الوسطية، لكلّ منها موسيقاها وموضوعها. بعضها مغطّى بألواح خاصة؛ وبعضها الآخر مزدان بأعمال فنية نمساوية. رحنا نلعب لعبةً لتخمين أعداد الكؤوس (6,000)، أما الزهور فعددها كبير جداً بحيث يتعذّر إحصاؤها.
الموسيقى محور الحفلات الراقصة كلها، يأخذها حفل Philharmonic الراقص في فيينا على محمل الجدّ. في هذا العام، قُدِّمت معزوفة أُنجِزت خصّيصاً للحفل لحّنها جون ويليامز، مؤلّف الموسيقى التصويرية لأفلام كثيرة، ابتداءً بسلسلة Harry Potter (هاري بوتر) وانتهاءً بسلسلة Indiana Jones (إنديانا جونز). هالواكس شديد الحماسة، خصوصاً من أجل ضيوفه الشباب – "فهذا جون ويليامز!" كما يقول. فقد أمل في أن يستقطب ويليامز الجيل الشاب من جديد إلى قاعة الحفلات الموسيقية، حيث يعودون للاستمتاع بروائع برامس.
لم يعكّر صفو الحفل سوى تأخّر دان شولمان، الرئيس التنفيذي لشركة PayPal، وزوجته سامرلي هورنينغ في الوصول
بدأت تجربتي مع الحفل الراقص عند الساعة 6:30 مساءً في مـأدبة عشاء أقامها رئيس مجلس الإدارة دعماً لبرنامج Young Talent Program التابع لجمعية Vienna Philharmonic Society (البرنامج هو وسيلة إضافية للتنويع تعتمدها الأوركسترا). إنه مجتمع متراصٌّ جداً – يذكّرني بلجنة مدرسية نخبوية – لكنّ الجالسين معي إلى المائدة بمعظمهم كانوا ودودين. إنهم رؤساء مصانع شمبانيا، ومؤلّفو كتب أطفال، وفاعلو خير من تكساس. ثمة نساء يرتدين أثواباً مزيّنة بالترتر ويتزينّ بأقراط ماسية من أربع ضفائر. لم يعكّر صفو الحفل سوى تأخّر دان شولمان، الرئيس التنفيذي لشركة PayPal، وزوجته سامرلي هورنينغ في الوصول قادمَين مباشرةً من Open Forum في دافوس. ("لكننا نجحنا في الوصول!") لسببٍ ما، تحوّل الحديث إلى كلام عن قَصّة شعر شولمان التي تولّتها هورنينغ بنفسها. احترت ما أقول، فأكّدت لها أنها رائعة.

© ريتشارد شوستر
في قائمة الضيوف المرموقين أيضاً المستشار النمساوي كارل نيهامر والممثل توبياس موريتي ومغنّية السوبرانو آنا نتريبكو. شاركت هذه الوجوه في الموكب الافتتاحي المؤلَّف من ثنائيات، ووجدت نفسي، مع الأسف، في وسط الموكب. (حضرتُ الحفل من دون شريك). "أمسكي بذراعي"، قالها لي ورنر، وهو مستثمر مقيم في براغ، وما قاله كان أجمل عبارة يخاطبني بها أحدهم. أمسكت بالذراع التي لم تكن تمسك بها زوجته. صرخ بصوتٍ عالٍ: "انظروا! لديّ اثنتان!".
الحفل الراقص بذاته، الذي يستمرّ من العاشرة ليلاً حتى الخامسة فجراً، باهرٌ. يشعر المرء بالارتياح لوجوده في غرفة حيث تفرض فرقة الأوركسترا سيطرتها الكاملة. سرعان ما علمت أن المبتدئات لا يُقدَّمن مطلقاً بنيّة حصولهنّ على عروض زواج. بل إنهنّ نتاج ثقافة حيث دروس الرقص أساسية تقريباً بقدر الحصص الدراسية العادية الأخرى؛ فالحفلات الراقصة تتيح لهنّ فرصة إظهار خطواتهن الراقصة واستدارتهنّ بالكعب العالي. لم أرَ مطلقاً شباباً يعاينون هواتفهم الخلوية، ولم ألمس ارتباكاً لدى الشباب الذين يدورون في حلبة الرقص، وأصابع أقدامهم ممدودة. الغاية من الوجود في هذا الحفل هي الاستمتاع فحسب.
يستعان بمجموعة من الراقصين الجوّالين، للاهتمام بسيّدات لا يتمتّع شركاؤهنّ بالمهارة في الفالس
أما الذين بلا شريك يُراقصونه، فما زال ممكناً أن يمضوا أوقاتاً ممتعة. في معظم الحفلات، ثمة مجموعة من "الراقصين الجوّالين"، وهم رجال محترفون يُستعان بهم للاهتمام بسيّدات لا يتمتّع شركاؤهنّ بالمهارة في الفالس. (يمكن إيجادهم في الطابق الوسطي فوق آلة الأرغن، وهي النقطة الأبعد عن حلبة الرقص). سألت هالواكس كيف أحجز راقصاً، فأجاب، بجدّية شديدة، أنه "ليس من شيَم السيدة" أن تبحث هي بنفسها عن راقص. تطلّعت بأملٍ إلى ماكس الذي كان يؤدّي نوعاً من خطوات الشاسيه، وهي عبارة عن خطوات ثلاثية منزلقة، على وقع أغنية "My Cherie Amour" (حبي).
ومَن أنا لأحكم على القواعد والمجاملات التي تملي هذه الطقوس القديمة؟ "إن لم يرُق لك الأمر، فاخرج وتناول البيتزا"، على حدّ تعبير ثيودورا سايمونز، أمينة الصندوق في Vienna Philharmonic Society التي ترافقني إلى عدد كبير من هذه الحفلات.
صمدت ثقافة الحفلات الراقصة على قاعدة نقل الضيوف، لليلة واحدة فقط، إلى زمنٍ غابر حين كانت فيينا مركز الأمبراطورية النمساوية - المجرية. يتطلّب ذلك درجةً عالية من الأصالة. وهذا ما قد يبدو متعارضاً مع حياة القرن الحادي والعشرين، في سياقٍ من المسائل الاجتماعية والسياسية المتبدّلة. لكنه يبدو طبيعياً على نحوٍ سُريالي في السياق الفييني. فيينا مدينة موسيقية، فهي موطن موزارت وشوبرت وبيتهوفن. إنّها المكان الوحيد الذي زرته حيث ينشد مغنٍّ متجوّل الأوبرا بطريقة (شبه) مقبولة. وهو المكان الوحيد حيث سمعت سكّاناً محليين يغنّون معاً.
تُبَثّ موسيقى البوب النمساوية في مطاعم McDonald's؛ وأسمع موسيقى Schrammelmusik الشعبية في مراحيض المطاعم. استمرار هذه التقاليد في الحياة العصرية دليلٌ على استمتاع النمسا بها. آمل فحسب في أن يحافظ الموسم المقبل الذي يصادف الذكرى المئوية الأولى لانطلاق Philharmonic على طابعه الكامل.