غريب ألا يكون Laboratorio di Scenografia في Teatro dell’Opera di Roma جزءاً من المسرح الذي يهتمّ بتأمين مستلزماته، ولا حتى محاذياً له. ففي الواقع، عليك أن تسير نصف ساعة تقريباً بعيداً من المسرح لتعثر على محترفٍ للسينوغرافيا مستقرّ في مستودع كبير مطل على Circus Maximus، يبني الفنانون فيه الديكور المطلوب يدوياً منذ أجيال عدّة.
حين التقى راقص الباليه الفرنسي بنجامين بيك والفنان الإسباني إيغناسي مونريال قبل أربع سنوات في روما بعيد انتقالهما إليها، ما كان ليخطر ببال أيٍّ منهما أن ما بينهما سيشعل شرارة تعاون مهني جميل، لا بل سيتجاوران أسابيع متواصلة في طوابق عليا يغمرها الضوء في Laboratorio التاريخي. لكنهما واظبا في شتاء هذا العام على التخطيط لابتكار ديكور مستوحى من الأحلام، للنسخة المبدعة التي قدّمها بيك عن تحفة La Bayadère (راقصة المعبد) الفنية التي عُرِضت في مسرح Bolshoi في القرن التاسع عشر. وقد أُقيم العرض، الذي لطالما تطلّع بيك إلى تقديمه للجمهور، لأيام عدّة في أواخر شهر شباط (فبراير).

منذ عام 2005، كان بيك أحد نجوم عالم الباليه في باريس، لكنه غادرها في عام 2016 ليقيم في روما، وليتولى منصب مساعد المدير الفني في Opera di Roma، حيث يعمل مؤدّياً أيضاً. وكان مونريال، وهو رسّام وفنان تصويريّ، يتنقّل بين روما ولشبونة بعدما أمضى سنوات عدة في لندن، ويعمل على إنجاز أعمال بتكليف خاص، كما يُقدّم الاستشارة لدار Gucci. تعرّف إلى بيك في حفل في فندق La Posta Vecchia الفخم على الواجهة البحرية في لاتسيو، علماً أن القدر (أو ربما الدوائر الاجتماعية الضيّقة في المدينة الخالدة) تدخّل ليضع كلاًّ منهما في طريق الآخر. اصطحب بيك مونريال إلى العرض الأوبرالي L'Angelo di Fuoco (الملاك الناري) لبروكوفييف في موعدهما الأول. وقع مونريال في عشق دار الأوبرا التي لم يسبق له أن زارها من قبل. يقول بيك ضاحكاً: "منذ البداية، كان الأمر أشبه بعلاقة ثلاثية مع دار الأوبرا!".
كان بيك هو مَنْ بادر، ولو بصورة غير مباشرة، إلى اقتراح فكرة التعاون الفني في عام 2021. يقول: "كنت أقدّم عرض Swan Lake (بحيرة البجع) في الهواء الطلق في Circus Maximus"، مشيراً إلى النوافذ الضخمة في إحدى جهات المحترف، والتي تطلّ على الحقل حيث الملعب الروماني القديم. يتابع راسماً على محيّاه ابتسامة عريضة: "لم تكن هناك تجهيزات لتغيير الديكور، وكنت أحاول جاهداً العثور على طريقة لإضفاء بعض السحر، لكن كان ثمة شاشة عرض كبيرة في الخلفية. فكّرت، فربما يمكننا إيجاد صورة بحيرة لعرضها على هذه الشاشة. قرّرت بصورة أساسية التلاعب قليلاً بإيغناسي. أريته ما يمكن أن يُعرَض على الشاشة".
![]() |
![]() |
يضحك مونريال عند تذكّر الواقعة: "بدت صورة مأخوذة من نتائج بحث عن كلمة ’بحيرة‘ في Google. كانت شبيهة جداً بصور Disney. قلت له: ’لا، لا، هذا غير ممكن‘". يقاطعه بيك: "كنت واثقاً تماماً من أن ردّة فعله ستكون ’دعني أحاول بنفسي‘".
"أسعى دائماً إلى تلمّس حدود الحيّز الذي ألعب في داخله"
اقترح مونريال مشهداً طبيعياً متحرّكاً صمّمه بسلسلة من رسوم صنعها بنفسه على جهاز iPad، وكانت تتحوّل وتنساب بمهارة مع الموسيقى والحكاية. يقول مونريال: "كان التغيير الكبير بالنسبة إليّ اختلاف المقصد. فما قمت به كان مكرّساً تماماً لخدمة الراقصين والموسيقى". وأتت النتيجة مبهرة.

يقودنا ذلك إلى فصل الشتاء المشمس لهذا العام في المحترف وإلى عرض La Bayadère. يعلّق مونريال: "إنه مناقض تماماً لطريقة إنجاز العرض في Circus Maximus". يعقّب بيك: "كان قراراً متعمّداً أيضاً بإنجاز مختلف التفاصيل والمكوّنات وفقاً للطراز القديم جداً، فقد رسمت يدوياً وصُنِعت كلّها يدوياً". كان لقدرتهما على الوصول إلى Laboratorio تأثيرٌ قوي على هذا القرار. يقول مونريال: "اختُرِعت هذه التقاليد القديمة هنا قبل 500 عام"، مضيفاً: "الحرَفيون [ونظراؤهم في ميلانو] هم الوحيدون في إيطاليا، وربما في أوروبا، الذين ما زالوا يعملون بهذه الطريقة". يصنع مخططات ورسوماً على جهاز iPad، فينسخها فريق Laboratorio، بقيادة مديره دانيلو مانسيني، بحجمٍ كبير.
لكن منذ وقت طويل، لم تُبتَكر مكوّنات الديكور وتفاصيله وتُصنَع كلها من الصفر. يقول مونريال عن نحو 1,000 نموذج محفوظ في الموقع: "كانوا يركّزون على ترميم عناصر الديكور القديمة. لذا، تحمّسوا كثيراً لفكرة صناعة شيء من الصفر". عُرِضت التصاميم على فرانشيسكو غيامبروني، المشرف على Opera di Roma. يقول بيك: "افتُتِن كثيراً بأفكار إيغناسي وعالمه". لكنّ كلَيهما يُجمعان على ردّ الفضل في إنجاز المشروع إلى اقتناع مانسيني والتزامه به، "والذي تطلّب قدراً كبيراً من العمل وكلّف أموالاً طائلة".

يُعدّد مونريال مباهج التعاون الميداني قائلاً: "أسعى دائماً إلى تلمّس حدود الحيّز الذي ألعب في داخله". ثم، هناك تاريخ المبنى والطاقة التي ينبض بها. يضيف: "تشعر كأنك تعيش في زمن آخر. حين يغمر الضوء المكان، يُضفي عليه سحراً خالصاً".
اصطحبني مونريال لرؤية غرفة خلط الدهانات حيث تتكدّس مساحيق الأصباغ عالياً في صناديق كما البهارات في السوق، وهي مصنوعة بتركيبات لم تتغيّر منذ أكثر من 100 عام. صعدنا سلّماً متقلقلاً للسير على جسر ضيّق معلّق على علوّ مرتفع فوق أرض مغطّاة بلوحات قماشية كبيرة بلغت عملية رسمها مراحل مختلفة. يقول مونريال: "إن كان لديّ من موهبة حقيقية، فهي الرسم. لكن ذلك كان أشبه بعقب أخيل، فالألوان تتغيّر كثيراً فيما تجفّ". تحسّباً لذلك، يتفحّص الستائر الصفراء الزاهية بعلو 9 أمتار (وزهور الخشخاش الضخمة والرائعة المخصّصة لأحد المشاهد الختامية) من موقعه على الجسر المرتفع للتحقق من التباين النهائي. لا تزال الأدوات المستخدمة في صناعتها نفسها إلى حدّ كبير على مرّ الأجيال: تُستعمَل فراشٍ طويلة كما المكانس بخبرةٍ وتمرّس وكأنها مماسح تُجَرّ في الاتجاه المعاكس، فيرسم فنانو Laboratorio خطوطاً مستقيمة من الألوان من دون عناءٍ.

كشفت الجوانب التقنية في تصميم الديكور عن خفايا وتحدّيات إضافية لا تقتصر على النواحي الفنية وحدها. يقول بيك ضاحكاً: "لا نتشاجر أبداً تقريباً. في Laboratorio...". يقاطعه مونريال: "إنه أصعب عميل تعاملت معه. في العادة، أتقاضى أتعاباً عن أي تعديل أجريه، وها قد عدّلت في هذا الديكور أكثر من 120 مرة".
بيد أن رؤية بيك تبقى ثابتة: "صمّمت الرقصة بأكملها. لا يرى إيغناسي ذلك، لكن التصوّر ماثل بكلّيته في ذهني. يجب إرساء توازن بين الديكور وموقعه والطاقة التي ينبض بها عرض الباليه".
باليه La Bayadère الذي أدّاه رودولف نورييف في باريس قبل انشقاقه وتوجّهه إلى الغرب في عام 1961، وكان آخر عرض يقدّمه قبل وفاته في عام 1993، هو بذاته مشروعٌ مكثّف يتطلّب أن يبذل بيك جهداً كبيراً. فقد أدّى جميع الرقصات التي يتضمّنها العرض، ودرس النسخ المتنوعة الكثيرة لما يصفه بأنه "قد يكون الباليه الذي قُدِّم منه أكبر عدد من النسخ المتجدّدة". يقول: "واكبني هذا العرض في نشأتي. إنه إرثٌ حقيقي. أدركت أن إيغناسي هو الملائم لتجسيد عظمة La Bayadère".