لا جدال في أن كاري فوتيلاينن واحدٌ من عظماء علم الساعات المعاصر، وأحد أكثر الخالدين المعروفين جماعةً باسم "المستقلّين" نيلاً للإشادة. يُلفظ اسمه بالنبرة نفسها كأسماء فيليب دوفور وروجر سميث ورِكسِب رِكسِبي: إنه ساعاتيّ يصنع نحو 70 ساعة في السنة، من دون أن تتشابه ساعتان منها تماماً، في حصاد لا يفي أهميته الثقافية حقّها.
يمكن التنبؤ بإنجازاته في نيله جائزة Grand Prix d’Horlogerie de Genève أو GPHG، حتى أنني اقترحت مرةً أن لا حرج في إطلاق اسم "جائزة فوتيلاينن" على إحدى الجوائز المقدّمة، لتكون من نصيبه في كل عام. حتى الساعة، تصطفّ ثمانٍ من جوائز GPHG، إلى جوائز أخرى متنوّعة، على جدران مشغله المنتصب على صخرة عالية مطلّة على مدينة موتييه السويسرية، قريباً من مكان إقامته في فيلا مترامية الأطراف ومخيفة قليلاً، بُنيَت على طراز الفن الحديث.
كلام فوتيلاينن هادئ وسلوكه الشخصي بسيط، لكنه يشي بإسراف خفيّ. في ساعاته شيء من التعبير المجازي عن مزايا الرجل، بفضل جودتها اليدوية التقليدية الدقيقة المضافة إلى إبداع فوّار يسعى وراء الجمال بمزيج من التقنيات غير العادية. بيته، أيضاً، تاريخي وغير عادي في آن، كأنه تاج محل سويسري برجوازي يستمتع فوتيلاينن بماضيه الرومانسي.

يشرح قائلاً: "كان والد المالك الأصلي يدير علامة Revue Thommen التجارية للساعات. وعندما كان ابنه شاباً، أرسله إلى موتييه ليتعلّم أسس ميكانيكا الساعات على أفضل ساعاتيّ في سويسرا. وقع هذا الشاب في حبّ ابنة رجل ينتج النبيذ الفوّار المحلّي، فتزوّجا وبنيا بيتاً قرب مصنع والده للساعات في الجزء السويسري الألماني من البلاد. لكن، ما رغبت زوجته في العيش هناك، فعادا إلى هنا حيث اعتادا السفر 150 كيلومتراً إلى مصنع والده، عبر طرق جبلية وعرة في أولى السيارات التي استُخدمت في سويسرا. في الأرض المحيطة بالبيت، ثمة مبنى سُمّي 'مستودع السيارات' في مخطط العقار، وهذا دليل على أنهما كانا يملكان سيارات في عام 1907 عندما بنيا بيتهما. وعاش هنا إلى أن وافته المنية في عام 1945".
اشتراه فوتيلاينن من مالكه الثالث، وأخذ يتمتع ببريق هندسة المبنى المعمارية وبتاريخه غير المحرّف. يقول: "ما زلنا نملك هنا الكثير من الأشياء الأصلية، مثل الأثاث، والسجاد، وحتى الستائر أصلية في غرفة المعيشة... تعود إلى عام 1907!". متى فُتحت هذه الستائر، تتحوّل إلى إطار لمنظر الحديقة حيث يقع البيت، مع أشجارها الناضجة الآن التي تظلّل ممرّ السيارات الممتدّ الفسيح.


يتعاظم فرحه بهذا العقار حين يتذكّر أنه آل إليه من خلال صناعة الساعات. كان يملكه جرّاحٌ عملت زوجته لديه. يقول: "كان يعلم أنني ساعاتيّ، ويدرك ما جلبته مهنتي هذه إلى القرية. وحين أوشك على التقاعد، عرض البيت علينا بدلاً من طرحه للبيع في السوق". هذا البيت تذكير دائم بما جناه من بضع مئات من الساعات التي صنعها خلال حياته المهنية الطويلة.
من أراد أن يفهم صعود فوتيلاينن، فعليه السفر إلى الشمال المتجمّد حتى أربعة كيلومترات فقط جنوب القطب الشمالي، في لابلاند، حيث ولد في عام 1962. يشكّل الأبناء المشهورون لبلدة روفانييمي (عدد سكانها 64,194 نسمة) مجموعة صغيرة لكن متنوعة: هناك السيد لوردي، المعروف لنيله جائزة Eurovision وهو يرتدي قناعاً لوحش؛ وسانتا كلوز، وبالنظر إلى أن روفانييمي مسقط رأسه، فإن قرية سانتا كلوز مفتوحة للعمل على مدار السنة؛ ثم هناك كاري فوتيلاينن.
لفوتيلاينن ابتسامة ماكرة ووميض مرح في عينه، ربما مكّناه من العمل كواحد من كبار أقزام سانتا، إن خسرت موسيقى الروك الفنلندية وتوزيع الهدايا الاحتفالية أمام صناعة الساعات. يقول: "عندما سألني والداي عمّا أود أن أفعله عندما أكبر، قلت: 'لا أعرف، لكنني أريد أن أعمل بيديّ وأن أكون مستقلاً'".


أتاه الوحي حين انتقلت العائلة إلى بلدة كيمي. "كان لدى والدي ساعاتيّ صديق، وكان متجره على الجانب الآخر من الطريق. رأيت مشغله وكلّ هذه الساعات والمحرّكات والمكوّنات والأدوات، فكنت مفتوناً بها. فككت منبّهاً – فككته تماماً. بالطبع، ما استطعت إعادة تجميعه... لكنني كنت مهتماً بالتأكيد"، كما يتذكّر متحدّثاً بصوت غنائي. ما إن أنهى دراسته وأدّى خدمته العسكرية حتى حجز لنفسه مقعداً في مدرسة صناعة الساعات الفنلندية في تابيولا، قرب هلسنكي: "ثم ذهبت للعمل في متجر للبيع بالتجزئة في بلدة صغيرة في لابلاند". ليس مفاجئاً ألا يشغله إصلاح الساعات وساعات الجيب في المناطق الريفية في فنلندا فترة طويلة. يقول باحترام: "هذا عمل جيد، لكنه لا يلائمني. أردت أن أتعلّم أكثر".
أمضى أربع سنوات منكبّاً على العمل على ساعة واحدة
كان هذا السعي إلى المعرفة ما قاده أخيراً، في عام 1988، إلى مدرسة صناعة الساعات في سويسرا، وبعدها وظّفه ميشال بارميجياني، المعروف وقتذاك على نطاق واسع بأعماله في ترميم الساعات. هناك، وجد نفسه مجاوراً صانع ساعات سبعينيّاً يدعى شارل هنري ميلان الذي رأى في الشاب موهبة واعدة، فشجّعه على صنع ساعته الخاصة.

صنع ساعةً، ثم أخرى، وأصبح معروفاً تدريجياً بساعاته الدقّاقة. إن الصبر سمة من سمات الساعاتيّ الرئيسة، وهذه صفة ينعم بها كاري. فبين عامي 1996 و2000، أمضى أربع سنوات منكبّاً على صنع ساعة واحدة، وهي كرونومتر لوحيّ بميزان قوته ثابتة، مزوّد بزوبعة. ليس فوتيلاينن رجلاً يمكن اتّهامه بالسعي وراء الكسب السهل حين يتوفّر مسار أكثر غموضاً يمكنه اتّباعه.
في عام 1999، غادر عمله لدى بارميجياني، لكنه كان يعلم أنه لا يستطيع بناء مهنة ثابتة على صنع الساعات الدقّاقة وحدها: "بحلول عام 2004 أو عام 2005، أدركت أن عليّ صنع محرّكاتي الخاصة في يوم من الأيام". في عام 2011، قدّم محرّكه الخاص، Vingt-8، وبدأ تلقي الطلبات. حتى يومنا هذا، تباع أغلبية ساعات فوتيلاينن مباشرة من المصنع ويسلّم كاري بنفسه في كثير من الأحيان القطعة النهائية يدوياً. وعندما احتفل بعيد ميلاده الـ50، استطاع أن يهنّئ نفسه بأنه، أخيراً، حقّق طموح طفولته بأن يعمل بيديه، وبأن يكون مستقلاً تماماً.
أو هكذا بدا.
بعد سنوات قليلة، حلّت الكارثة. منذ إطلاقه في عام 2007 سلسلته Observatoire الحائزة جوائز، والتي حوّل لأجلها مجموعة من محركات "Observatory" الاستثنائية من Peseux، تميّزت ساعات فوتيلاينن بأقراص رائعة مزخرفة أبدعها بنفسه مستخدماً مخرطاً يدوياً للزخرفة يعود إلى بداية القرن العشرين تقريباً. وحده تلوين الأقراص وطلاؤها كان من العمليات القليلة التي لم تُنفَّذ في مشغله، إذ أسندها خارجياً إلى مصنع آخر. وحين تغيّرت ملكية المصنع واستقال الحرفيون الذين عمل معهم فوتيلاينن هناك، وجد نفسه أمام مشكلة يصعب حلّها.
وإذ خشي أن تُنتزع منه استقلالية كسبها بصعوبة، وجد مصنعاً لأقراص الساعات يوشك أن يعلن إفلاسه. يقول: "في الأول من تموز (يوليو) 2014، صرت مالك مصنع للأقراص". هكذا، ما بدا أزمة وجودية صار نقطة تحوّل كبرى في مسيرة العلامة التجارية.

اتّخذ فوتيلاينن قراراً واعياً بألا يرفع الإنتاج. لكن ما يبدو غير بديهي تجارياً منطقي تماماً بالنسبة إليه: "إن زدت الإنتاج متجاوزاً حدوداً معينة، فسأكون مديراً فحسب، ولن أكون ساعاتياً حقيقياً يعمل إلى طاولة مشغل، حيث أشعر بالانتماء أكثر من أي مكان آخر". تلطّخ نبرة من التصميم الفولاذي الصوت الصاخب وهو يضيف: "اتخذت قراراً بأنني لن أتخلى عن أي جودة في الحياة سعياً إلى تحقيق أرباح أكبر. لا أستطيع البقاء حياً أرزق إن فقدت هذا الاتصال بجذور شغفي".
"لن أتخلى عن جودة الحياة سعياً إلى تحقيق أرباح أكبر"
لا ينبغي الخلط بين التفكير الفردي والأنانية. حتى بوصف فوتيلاينن واحداً من العظماء، يسعده وضع مواهبه بتصرف الآخرين. في هذا العام، كان جزءاً من تعاون ثلاثي لصنع إصدار محدود لقسم الساعات في Zenith وPhillips يعمل بمحركات Observatory من الخمسينيات، وفي العام الماضي وافق على أن يكون الرئيس التنفيذي لعلامة Urban Jürgensen التجارية التاريخية التي تأسست في الدنمارك في عام 1773، ثم انتقلت إلى سويسرا في العقد الأول من القرن التاسع عشر، حيث تعمل ابنته فينلا ساعاتية.
على غرار والدها، إنها مستقلة جداً، وتقول إن عائلتها ما كانت دافعها إلى صنع الساعات، إنما المشورة المهنية المدرسية في أوائل مراهقتها. يقول فوتيلاينن: "كان قرارها، وقرارها وحدها". في الواقع، وجدت اسم والدها الشهير والمميز، بصداه، مصدر إلهاء. يقول: "تقول إن بعض الناس عاملها بشكل مختلف، لكنها لا تدع ذلك يزعجها"، وبفخر كبير يروي سيرتها الذاتية المثيرة للإعجاب: "بلغت أخيراً 23 سنة، لكنها صنعت ساعة للمزاد الخيري نصف السنوي Only Watch عندما كان عمرها 20 سنة، وتدرّبت أربع سنوات مع Vaucher Manufacture Fleurier [شركة رائدة في تصنيع المحركات للعلامات التجارية المرموقة]، وعملت سنتين في متجر The Hour Glass للساعات في سنغافورة، قبل أن تعود إلى سويسرا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 للانضمام إلى Urban Jürgensen".

"ابني مهتم بالأمر نفسه أيضاً، لكن مساره مختلف. عمره 27 سنة، وهو يدرس في École Polytechnique Fédérale de Lausanne. إنه يدرس المواد. حضر في الخريف الماضي دورات في الميكانيكا، فهو مهتم بالساعات، لكن ليس بوصفه صانع ساعات. سابق لأوانه القول إن كان سيمتهن هذه الصناعة".
أسدى كاري ولديه نصيحة مهنية واحدة فقط: "علّمتهما أن عليهما امتلاك مهنة يكون فيها صباح الاثنين أفضل صباح في الأسبوع. أما مساء الجمعة، فميزة إضافية. لكن يجب أن يكون صباح الاثنين أفضل لحظة".
لكن، كما العديد من الفلاسفة المحلّيين، ثمة أوقات يجد فيها صعوبة في العيش متّبعاً تعاليمه الخاصة، وفي الأغلب لا يستطيع الانتظار حتى الاثنين. من المعتاد أن يراه الناس متجوّلاً في سوق البرغوث الذي يقام في عطلة نهاية الأسبوع في فاليه دي جو، حيث كوفئ صبره أخيراً باكتشاف محرّك Observatory استثنائي قديم آخر. أسأله عمّا إذا كان قد حصل عليه بسعر جيد: "لا، الرجل الذي يبيعه كان يعرف ما لديه"، وربّما عرف من كان يشتريه أيضاً.
مع ذلك، كاري سعيد باكتشافه الأخير حيث يرى الجمال والإمكانات تحت زنجار تاريخ صناعة الساعات. إذا كان هناك رجل يهب هذه الكنوز من ماضي صناعة الساعات في سويسرا حياة جديدة، فهو كاري فوتيلاينن. من يدري، ربما يكون قد وجد لتوّه بداية لإحدى ساعاته التي ستفوز بجائزة GPHG في المستقبل.