الرياض ترقص على وقع الأزاميل. هذا شعور راود، لا بدّ، كل من زار العاصمة السعودية حديثاً. فمن كل بقاع الأرض، اجتمع 30 فناناً في ضاحية درة الرياض، أتوا من 20 بلداً، ليجاوروا نحاتين ونحاتات من السعودية، وليعبق المكان طوال الفترة الممتدة بين الثامن من كانون الثاني (يناير) والعاشر من شباط (فبراير) بغبار الفن يتطاير من الصخر والغرانيت. واغتنى مزيج الطرق والنقش، وما بينهما من لحظات تأمل، بنحت حيّ هو أجمل ما يمكن أن يراه إنسان: عملية تكوين ترقى إلى مستوى ابتكار الحياة من جماد، يرنو إليها الناظر فيشهد المراحل الجنينية لتكوّن الفكرة وتحوّل الصخر الأصمّ إلى منحوتة ينطق صمتها المطبق، فيتحدث عن حال النحات ونفسه وعقله.

منحوتة Harmony (تناغم) للنحاتة السعودية وفاء حمد القنيبط
إنه هذا الصمت الضاجّ في التأسيس لعلاقات إنسانية مستدامة تحوم حول ثيمة مثيرة للإبداع: Energy of Harmony (طاقة الانسجام)، وضعها ماريك وولينسكي، منسق هذه الدورة من ملتقى طويق للنحت، والقيّم الفني المتخصص في المشاريع الكبرى والشراكات العابرة للقطاعات، داعياً من خلالها إلى تعزيز الحوارات الرائدة والمستدامة بين الثقافة والحداثة، منطلقاً من عزم دائم على تجسير أي هوة بين التقليدي والحديث. اختار وولينسكي، ومعه الخبراء الفنيون آلاء طرابزوني وعلي الطخيس وعفت الفدغ ويوهانس فون ستام، النحاتين المشاركين في هذه الدورة انطلاقاً من فهمٍ أكيد لمزاج الانفتاح على الآخر الذي ترزح تحته المنطقة، وهذا ما جعل من الانسجام مصدر إلهام لمنحوتات – أيقونات، أتت خير تعبير عن مآلات التغيير في النفس الإنسانية متى تقبل الإنسان الآخر. فالسرّ هنا في ما يتركه الإزميل من أثر دائم في الحجر، ليكون جرحاً في إنسان، يشعر به كل الناس في هذا العالم. استجاب النحاتون المشاركون للموضوع، فتحدثت منحوتاتهم عن بيئات محلية غلفوها بسرديات تتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة إلى رحاب تاريخ غني يجمع الكل في بوتقة إنسانية واحدة.

لا شك في أن المرأة السعودية هي أفضل من يجيد التعبير عن معنى الانسجام في المجتمع، لذا وجدت النحاتات السعوديات في هذه الثيمة فرصةً لتكون لهنّ كلمة عليا في هذا الشأن. Permanence (ديمومة) هو عنوان منحوتة أزهار سعيد، الحائزة جائزة الفنانة الأولى من جامعة الملك سعود وجائزة المعلم الموهوب من وزارة التربية والتعليم في السعودية، استوحتها من الشكل الدائري الذي يُعبر عن نبض الوجود البشري. للدائرة معانٍ كثيرة، أولها الطبيعة والأرض، ثم الثقافة والفن والبناء والحركة واستمرارية الحياة والعاطفة. وهذه النحاتة رجاء الشافعي، الحائزة جائزة وزارة الثقافة السعودية لعام 2015، تعبّر في عملها Let’s Blossom Together (لِنُزهر معاً) عن علاقة بين شخصين، وعن اعتراف بعضهما ببعض بوصفهما كياناً كاملاً، له حقوقه وأحلامه وطموحاته. وفي Vision (رؤية)، تركز النحاتة السعودية نهى الشريف على عنصر الفضاء، راسمة حدود العلاقة بين الظل والضوء في الفضاء الحضري، وهي من تفصح في منحوتاتها كلها عن علاقتها المتجذرٍ بالروحانية، محولةً الحجارة إلى شخصيات مجردة. أما وفاء حمد القنيبط، فقد أتى عملها الفني Harmony (تناغم) معبراً عن رأيها في أن الكتلة صمت والفراغ صوت والتجويف تناغمٌ بينهما.
تفرّق النحاتون السعوديون في أرجاء درة الرياض يجمعهم توق عتيق إلى لقاء "المختلف"، ولسان حالهم أن الثابت الوحيد في شدة الساعد عند ضرب الحجر هو التحوّل من فردانية نافرة إلى أفراد ينضمون إلى معادلات مجتمعية يحكمها الانسجام، بكل ما له من طاقة. ترى النحات طلال الطخيس وقد ألّف منحوتته Continuous Points (نقاط مستمرة) من أربع نقاط رأسية مختلفة، يدور كل منها منفصلاً مستقلاً بحركة سلسة بطيئة، ثم تندمج كلها في دوران أسرع، لتعود إلى بطئها السابق، في عملية متكررة. فالمرء يبدأ في الاندماج في مجتمعه متجاوزاً كل تناقض لحظة يبادر إلى التنازل عن حدوده وتقبل الآخر ولقائه، وهذا ما يضمن استمرارية الحياة. وعلى هذه اللحظة نفسها يبني الفنان التشكيلي والنحات السعودي فهد الجبرين منحوتته Meeting Point (نقطة لقاء) بانياً على فكرة الوحدة، ولسان حاله: بغض النظر عن الاختلاف بين البشر، يمكنهم استنباط نقاط تجمعهم. وتأتي منحوتة Empower (تمكين) بإزميل النحات السعودي محمد الثقفي لتلفت إلى مستقبل المرأة الحافل بالتفاؤل والتغيير، إذ ركّز في تفاصيل هندسية ترمز إلى التراث والثقافة، وإلى خطوات كبيرة خطتها المرأة في السعودية متخطية الانسجام إلى أداء دور لا غنى عنه. أخيراً، هذه منحوتة Riyadh’s Eye (عين الرياض) للنحات السعودي محمد الفارس، يصور فيها منظوراً جديداً في التقاطع بين ماضٍ جميل يحن إليه وعصر حديث يتطلع إليه، ورؤية جديدة في الانسجام بالرغم من الاختِلاف. أي عين هذه؟ إنها فوهة جبل أبو مخروق التي راقبت تطور الرياض ونموها جيلاً بعد جيل.
من الروح دخلت النحاتة المغربية إكرام القباج إلى محراب الانسجام، وكأنها تريد أن تذكرنا أن غياب الطاقة يعني غياب الروح، ومن غادرته روحه غادرته الحياة. ترسم في منحوتتها The Waves of The Soul (موج الروح) طاقتين متكاملتين مع فتحة رأسية لمرور الضوء، وترمز إلى حلم السفر في طريق معرفة الذات والعمق الذي يسمح للمرء باكتساب الوعي بنفسه وتحديد مكانه ومكانته في هذا العالم. وكذلك، يحاول النحات المصري محمد رضا الصياد، الأستاذ المساعد في النحت بجامعة حلوان، في منحوتته Elevation (ارتقاء) إيجاد صيغة جديدة للعلاقة الجمالية بين العضوي والهندسي، أو العثور على روح جديدة لهذه الصلة، متجاوزاً الحدود التقليدية لتقديم النحت بأشكال واقعية وموضوعات معلبة.
المرأة السعودية هي أفضل من يجيد التعبير عن معنى الانسجام في المجتمع
والماء روح أيضاً، ومنه كل شيء حي. إنه قاسم مشترك بين النحاتة الروسية فاسيليسا تشوغونوفا والنحات الياباني تاتسومي ساكاي. ففي منحوتة تشوغونوفا، Energy of Water (طاقة الماء)، تتشابك الخطوط المنحوتة بدقة لتشكل تياراً مستمراً من الخطوط الرفيعة والكتل العريضة، بينما تبرز في أماكن أخرى قطرات ماء صغيرة. وبالرغم من صغر حجمها، تحمل هذه القطرات قوة كبيرة، وكأن تشوغونوفا تريد أن تقول إن الماء يحطّم الحجر. أما ساكاي، فتصور منحوتته Door of Water (باب الماء) انسيابية الماء. وبيده، كتب ساكاي في بيانه الفني: "يحيط الماء بنا في كل مكان على شكل غيوم وجليد وأشكال عديدة أخرى، ويمثل الخير أحياناً والكوارث في أحيانٍ أخرى". إنها دعوة مفتوحة للتفكير في طاقة الماء على التشّكل بانسيابية، على التأقلم، على الاندماج، وعلى الاستمرار والتجدد والديمومة.

مفهوم البناء على الانسجام يجمع الأوكرانية ليودميلا ميسكو والصيني كيان سيهوا. انكبت ميسكو أياماً طويلة لتجعل من منحوتتها Harmony of Trust (الثقة في الانسجام) سلالم إلى السماء، تمثل رفوفاً من الذاكرة، ساعيةً إلى تصوير نظرية منطقية معقدة استناداً، وإلى تحدي مفهوم تحيز الثقة ومبالغة الفرد في تقدير أحكامه. أما سيهوا فيدلّنا في منحوتته Harmony in Diversity (الانسجام في التنوع) إلى أن هذا المفهوم يشير إلى الانسجام بحذاته لا التجانس، إلى المختلف لا التصادمي، لذا تكتسي منحوتته تسامياً روحياً من خلال التناغم وتغيير الأشكال الهندسية.
عمل النحاتون على حجارة جرى الحصول عليها من محاجر في العاصمة السعودية، وتحديداً الغرانيت والحجر الرملي، المعروف أيضاً باسم حجر الرياض"
تستكشف أعمال النحات الإسباني خوسيه ميلان علاقة الإنسان الشخصية بذاته بقدر ما تتعلق بالتواصل مع الآخرين. وفي منحوته Understanding (تفاهم)، يريد أن يعرف الجميع أن لا تفاهم يقوم بلا لغة مشتركة يمكن التعبير بها عن تفاهمات متبادلة وعن أضداد لا يمن توازيها التقاءها. فميلان مؤمن بأن التواصل صعب، يتطلب ممارسة وتمريناً، والهدف الأساس هو فهم وجهة نظر الآخر للإمساك بالعصا من وسطها. أما النمساوي ستيفان إسترباور فيضمّن منحوتته I Am Beginning to See the Light (بدأت أرى النور) وجهات نظر جديدة تفتح طريقاً إنسانياً في هيكل الحجر. منحوتته مكعب مقطوع بدقة، ما زالت علامات إزميله ظاهرة فيها، وكأنه يريد أن يقول إن التفاهم مع الآخر هو نقش في حجر، صعبٌ أولاً لكنه يبقى ويستمر.

لأول مرة منذ انطلاق ملتقى طويق للنحت في عام 2019، وهو أحد برامج Riyadh Art، يعمل المشاركون على حجارة "جرى الحصول عليها من محاجر في الرياض، وتحديداً الغرانيت والحجر الرملي، المعروف أيضاً باسم حجر الرياض"، كما تقول سارة الرويتع، مديرة الملتقى، مضيفةً أن لهذا الاختيار أهميته الرمزية إذ يسلّط الضوء على تاريخ السعودية الغني بالقطع الأثرية القديمة والمنحوتات الصخرية، القديمة والحديثة. وبعد عرض حي أتيح فيه للجميع أن يشهدوا تشكّل الأفكار وتكوّن المنحوتات، عرضت الأعمال الفنية النهائية في درة الرياض ستة أيام، من 5 إلى 10 شباط (فبراير) الفائت، على أن توزع في مواقع دائمة في أنحاء الرياض لتكون جزءاً من الخريطة الفنية للمدينة، فتُثري الحياة اليومية لسكانها وزوارها، وترفد Riyadh Art في مسيرته لتحقيق هدف "الرياض معرض بلا جدران". وأينما يولّي أهل الرياض، فثمة انسجام منحوت في طرقات مدينتهم وفضاءاتها العمومية. ويوماً بعد يوم، يشتد عود ثيمة الإنسجام التي صاغها وولينسكي بتجسّدها في أفكار تستمد صلابتها من قوة حجر الرياض نفسه. تتعدد هذه الأفكار، وتختلف تجسداتها، وتبقى رسالتها واحدة: "أيها الآخر، تعال لنلتقي في منتصف الطريق".