وجهاً لوجه، وقفت أمام الحصان المخصيّ في حلبة رملية فسيحة في متنزه ريتشموند بارك. طلب منيّ المعالج النفسي البريطاني - الفلمنكي البروفيسور د. أندرياس ليفوغ أن أقدّم نفسي للحصان. فيما كنت أتقدّم باتّجاهه، أصدرتُ أصوات نقر وهمهمة قائلة: "يا لك من فتى مطيع"، حتى ألفيت نفسي أقول له: "مرحباً، أنا كايت"، بالرغم من أنني أشكّ بأن المطلوب كان أن أقدّم نفسي بهذا الأسلوب الحَرفيّ جداً.
بدأ الحصان يدنو منّي، فمددت له ذراعي وتركته يشتمّ يدي، وربّتُّ على عنقه وداعبت وجهه. توجّه نحو البوّابة، فرافقته. توقّف، ورفع رأسه عالياً جداً، وانتصبت أذناه، ونظر إلى شيء ما في البعيد. سألت ليفوغ: "أيريد الذهاب؟" انضمّ إلينا الطبيب عند البوّابة وسألني إن كان موضوع الرحيل مطروحاً في حياتي، فبدأت أتفوّه متوترةً بكلمات كثيرة عن شعوري بأنني غير مرئية. وفجأةً، أجهشت بالبكاء على وفاة والدي.
أنشأ ليفوغ منظّمته Operation Centaur في عام 2005 من أجل "تعزيز أهمية الحصان العامل في المجتمعات المدينية المحلية"، بما في ذلك برامج العلاج النفسي للأفراد والأزواج والمجموعات بواسطة الخيل، للمساعدة في مسائل مختلفة ابتداءً من الحزن والقلق وانتهاءً باضطرابات الأكل والإدمان. اكتسب العلاج النفسي بالخيل رواجاً متزايداً خلال العقد المنصرم، وفي العام الماضي، أُطلِق السجل الأول، Human Equine Interaction Register (سجل التفاعل بين الإنسان والخيل)، في المملكة المتحدة لضمان الصدقية والتزام معايير عالية في الممارسة. في جانب أساسي، ليس مطلوباً أن يتمتّع الشخص بالخبرة في ميدان الخيول كي يتمكّن من التسجّل.
الخيول حيوانات تتعرّض للافتراس، ما يجعلها شديدة الحذر، وقادرة على التقاط تردّدات الطاقة الصغيرة جداً التي تصل إلى القطيع. خلال الجلسات، تلتقط الإشارات غير الشفهية ولغة الجسد. يُشجَّع العملاء على مراقبة التأثير الذي يمارسونه على الخيول، فيما يقوم المعالج بـ "الاستخلاص"، بحسب التعبير الذي اختاره ليفوغ بتأنٍّ. حين أمسك الحصان المخصيّ برسنه المعلّق على السياج بواسطة أسنانه، مثلاً، ورماه على الأرض، فسّرتُ ذلك بأنه مؤشّر إضافي على أنه يرغب في المغادرة، لكنّ ليفوغ تساءل إن كان يرغب ربّما في اللعب. يتيح لي اختبار هذه اللحظات التخلّص من "حالة التكبيل" التي أعيشها، ويساعدني على التحلّي بالشجاعة لأعيش الحِداد على والدي كما يجب، وهو ما لم أجرؤ على فعله حتى الآن.
في العام الماضي، أطلق البروفيسور مشروع Retreat & Conquer، وهو سلسلة من الرحلات الخارجية التي تُنظَّم لمجموعات من 12 شخصاً كحدّ أقصى، من أجل الاختلاء بالنفس على مدى خمسة أيام. الوجهات المقرّرة لهذه الرحلات هي إندونيسيا (في منتجع Nihi في جزيرة سومبا، حيث يستطيع الضيوف أن يركضوا بحريّة مع قطيع من 27 جواداً غير مربوطة برسن، والسباحة معها في البحر)، وموستيك (حيث يمكن السباحة أيضاً مع الخيول)، وليمبوبو في جنوب أفريقيا، ودبي. ومن أجل الانضمام إلى هذه الرحلات، يتمّ أولاً تقييم حالة الضيوف لمعرفة مدى ملاءمتهم، ما يعني الخضوع لجلسة علاج نفسيّ بالخيل كتلك التي خضعتُ لها في ريتشموند. "نطلب من الأشخاص تقديم طلب لحجز مكانٍ لهم لأننا نريد أن تنجح المجموعات"، كما يقول ليفوغ، مضيفاً: "أحياناً لا يعي الأشخاص بتاتاً مَن هم، وما يجلبونه معهم من مشاعر". (يبلع ريقه). يعتقد ليفوغ أن أخذ استراحة مفيد للأشخاص الذين يقفون عند مفترق طرق: "ربما يكون طلاقاً، أو مغادرة الأولاد المنزل لمتابعة تحصيلهم الجامعي، أو وفاة الأهل. الخسارة هي من الأمور الكبيرة التي تحصل لنا جميعاً. والتغيير ينطوي دائماً في صلبه على خسارة".
فكّرت للمرة الأولى في الخضوع لعلاج نفسيّ بالخيل قبل وفاة والدي بشهر واحد، عقب إصابتي بالمرض فترة وجيزة. شعرتُ بأنني طفلة صغيرة فيما كانت صحّة والدي تتدهور، ودفعني ذلك إلى التفكير في الخيول لأنها كانت تستحوذ على تفكيري كاملاً حين كنت صغيرة. منذ سن الخامسة حتى السادسة عشرة، كنت أمتطي الخيل كلّما سنحت لي الفرصة، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أكون حصاناً (مثل الملكة إليزابيث الثانية، كما يبدو). تُشعرني الخيول بسعادة حقيقيّة. أحبّ طريقة تخاطبها بالصهيل حين يكون أحد الجياد منفصلاً عن قطيعه في حقل آخر، ويعجبني أنها تعبّر بانفتاح شديد عن هذه الحاجة إلى الرفقة، وأنها تُبدي في معظم الأحيان تعاطفاً أكبر ممّا يُظهره البشر.

عدت إلى الحلبة في Operation Centaur، قبل أسبوع من فعاليات عسكرية مزمعة إقامتها إحياءً لذكرى والدي، وما زالت عيناي مغرورقتين بالدموع. استدرت نحو الحصان، وكنت مقتنعة بأنه يريد الذهاب. طمأنني ليفوغ: "ما تفعله الخيول في العلاج هو ما تقوم به دائماً مع الإنسان، إنها تُسرّع الأمور. لم نكن مطلقاً لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم بعد جلسات قليلة داخل غرفة، لكنّنا بلغناه في سبع دقائق". أوضح لي أن الحصان – الذي لقّبته بلقب "باي"، بما أنه يطلب من العملاء إطلاق ألقاب على الخيول، لأنه قد تكون لأسمائها الحقيقية ارتباطات مشتِّتة للتفكير – لا يريد الذهاب، بل اختار أن يكون معي. ولفت إلى أن الحصان اقترب مني أولاً، و"مشينا معاً"، وإلى أنه يلامسني الآن بأنفه وفمه، ويستخدمني لحكّ جلده، حتى أنه يتشارك الهواء معي. وهذه كلّها علاماتٌ تدلّ على العطف والمودّة.
أحبّ صراحة ليفوغ، مع أنها قد تكون جارحة قليلاً. في جلستي الثانية (من أصل خمس جلسات) قال لي: "تسرّعتِ في إظهار حميمية مفرطة، فالحصان لا يعرفك جيّداً". أعترف بأنني حاولت معانقة باي بلفّ ذراعَيّ حول عنقه. ("خمسون ظلاً للجواد باي" قالها لي زوجي ممازحاً في وقت لاحق [في إشارة إلى فيلم Fifty Shades of Grey (خمسون ظلاً للّون الرماديّ)]).
أتساءل، تُرى هل يشعر الحصان بالتأفّف لأنني، التزاماً منّي بالتعليمات، وضعت جانباً المشاعر التي يثيرها لديّ بعض الأشخاص في حياتي، كي أتمكّن من عيش حزني بحرية أكبر. كان يُتوقَّع من باي أن "يحمل" مشاعري برهةً، ما ترك لديّ في نهاية المطاف شعوراً بالذنب مع أنه منحني تحرّراً رائعاً. يقول ليفوغ إن وضعية أذنَي باي تشير إلى أنه "يصغي إلينا"، فضلاً عن أن الخيول هي "حيوانات تُستخدَم في نقل الأحمال".
"شعرت بنبض قلبه قرب نبضي… لقد وجدتُ السكون"
تحظى الخيول باحترام متزايد لقدرتها على تحفيز التغيير في السلوك البشريّ. "بدأتُ بإدماج الخيول في جلسات الصحّة العقلية لأنني لمست لدى العملاء تحوّلاً لم أشهد له مثيلاً من قبل"، كما تقول لين توماس، المؤسِّسة المشاركة لجمعية Equine Assisted Growth and Learning Association (جمعية النمو والتعلم بالخيل) المعروفة اختصاراً باسم "Eagala"، وهي أكبر منظّمة للتدريب من خلال العلاج النفسيّ بالخيل، كما أنها تتولّى حالياً إدارة المنظّمة غير الربحية Horses for Mental Health (جياد من أجل الصحّة العقلية). وفقاً للأرقام التي نشرتها Eagala، شارك 4,764 حصاناً في جلسات العلاج النفسيّ بالخيل في عام 2019، ما ساهم في مساعدة نحو 50,000 شخص في 40 بلداً.
في الجلسة الثالثة مع ليفوغ، قدّم لي حصاناً مختلفاً، وهو حصان أصيل أسود وجميل. على الفور، بدأ الحصان الملقّب بلقب "ستار" يقفز ويشبّ ويرفس، ثم راح يعدو دائرياً في الحلبة مطلقاً صهيلاً مرتفعاً. انتقلنا، ليفوغ وأنا، للوقوف خلف صفٍّ من منصّات القفز المستقيمة. استُدعيت السائسة لتطويع الحصان، ومنذ لحظة وصولها، أصبح ستار أكثر هدوءاً. تَقرّر أن يُستكمَل العلاج داخل الإسطبل الخاص به. لكن أولاً، يجب أن يمشي عشر دقائق كي يهدأ. ويبدو أنني بحاجة إلى المشي أيضاً، فقد جرى اصطحابي للمشي في دائرة كبيرة حول مجمّع الإسطبلات برمّته. فجأة، أجهشت بالبكاء ولم أتمكّن من السيطرة على دموعي.
في الإسطبل، هدأ ستار تماماً. تحدّثت مع ليفوغ عن القلق، وكيف يمكن أن يساعد على شحذ الوعي لدينا، مثل الحدس الذي يدفع الخيول إلى الفرار. بيد أن "المثابرة هي الأساس"، كما يشدّد ليفوغ مضيفاً أنه يتوجّب عليّ أن أقطع "شوطاً طويلاً" لتحقيق ذلك. لكنه طمأنني قائلاً إنه إذا كنت قادرة على التحكّم بنفسي عند باب الإسطبل، "مثلما فعلت لتوّي"، فيمكنني التحكّم بنفسي حين أعيش مشاعر الحزن على فقدان الأشخاص.
يساعدني العلاج أيضاً على تعزيز ثقتي بنفسي. أجد أن فكرة تنحية المشاعر التي يثيرها الآخرون فيّ ووضعها جانباً تمنحني تحرّراً كبيراً. وحين أشعر بالأذيّة، غالباً ما أفكّر في الخيول وفي قدرتها على أن تستشفّ فوراً أي تهديد محدق بإحساسها بالأمان، ففورة الأدرينالين هي نوعٌ من نظام إنذار مبكر.
في جلستنا ما قبل الأخيرة، أحضر ليفوغ جواداً عربياً صغيراً كستنائي اللون يعمل معه منذ عشرين عاماً. طُلِب مني أن أسير بالحصان الملقّب "غولدي" نحو ليفوغ الذي توجّه للوقوف في الطرف الآخر من الحلبة. أصدرتُ أصوات نقر وانطلقنا. شعرت بالحماسة الشديدة لنجاحي في القيام بذلك إلى درجة أنني بدأت بتجاوز الحصان في المشي. لكنه توقّف فجأةً، وهزّ عنقه في استدارة سريعة وكشف عن أسنانه. أصبتُ بالذهول، وتنبّهت إلى أنني أميل في العادة إلى الانجراف وراء اللحظة الآنية.
في جلستنا الأخيرة، قُدِّم إليّ الجواد غولدي من جديد. في هذه المرة، كان ودوداً جدّاً ووقف بجانبي خلال القسم الأكبر من الجلسة. أراني ليفوغ كيف أتحسّس نبض قلب الحصان، ثم علّمني أن ألفّ ذراعَيّ حول ظهره كي أشعر بنبض قلبه قرب نبضي. لقد وجدتُ السكون.
لا يغمرني الآن شعورٌ جامح بالرغبة في أن أكون مع الخيول من جديد فحسب، إنما أيضاً بالسباحة معها في إندونيسيا، وحتى امتطاء الخيل مجدداً ذات يوم.
قبل مغادرتي، سألت ليفوغ لماذا اختار لي الجواد باي في البداية، وهو الحصان الذي شعرت بالرابط الأقوى معه. فأجابني: "لأنه أقرب ما لدينا إلى الخيول العسكرية: نبيلٌ ومهيبٌ وحكيم". تماماً مثل والدي…