يبدو بورتريه الشاعرة والممثلة غريتا بيلاماسينا المرسوم بالحجم الطبيعي الكامل مسرحياً وهادئاً في آنٍ واحد، فقد رُسِم تحت ضوء ناعم آتٍ من نافذة شمالية، بفَراشٍ مصنوعة بشَعر الخنزير، على طريقة الرسّام جون سينغر سارجنت. اللوحة بريشة إيزابيلا واتلينغ التي تُعَدّ من كبار رسّامي البورتريه في بريطانيا، عرضت أعمالها في مسابقة BP Portrait Award لجوائز البورتريه، وتزاول التدريس في استوديوهات Charles H Cecil Studios المرموقة في فلورنسا.
تتماهى هذه اللوحة، وقد أُنجِزت بتكليف من بيلاماسينا التي أرادت تعليقها في مدخل منزلها، مع فن البورتريه الكلاسيكي، لكن الوقفة والشَّعر والثوب الذي يحمل توقيع المصمّمة سيمون روشا والوضعيّة العامة، مسائل تضفي عليها طابعاً حديثاً، وملائماً و... رائعاً جداً. وتُظهر على نحوٍ جميل لماذا يكتسب البورتريه المرسوم نفحة حياة جديدة. ففيما تنهال علينا الصور الرقمية الفورية، تنجذب كوكبةٌ جديدة من عشّاق الفنون إلى ما يمكن أن يشكّل تجربة مثيرة، لا بل مؤثّرة، فضلاً عن كونه استثماراً مُجزياً.

يقول فيليب مولد الذي يملك صالة عرض وهو من الاختصاصيّين البارزين في مجال فن البورتريه: "بعض الأفراد يمكنه أن يُضفي تبصّراً جيّداً وصدقيّة نفسية وتفاصيل دقيقة على وجه مرسوم بطريقة لا توفّرها الصور الفوتوغرافية أبداً، لا سيّما تلك التي يجري التلاعب بها". لكن الأمر يتعلّق أيضاً بـ"نظرة" شخص آخر إليك، بحسب تعبير وكيلة الأعمال الفنية ألمين ريتش التي جلست بنفسها أمام جوليان شنابل ليرسمها بريشته. تقول: "نمضي وقتاً طويلاً جداً في النظر إلى صورنا وصور الآخرين على الشاشة، إلى درجة أنه بات أمراً قوياً وسحرياً أن نشهد على بورتريه مرسوم يدوياً، مع الروح التي يجيد الفنان تجسيدها".


لا تزال لوحات البورتريه المجتمعية الرسمية للعظماء وعلية القوم تحقّق رواجاً، لكن الأمثلة الأخيرة، مثل اللوحة الرسمية الأولى لويليام، أمير ويلز، وكاثرين، أميرة ويلز، بريشة جايمي كوريث، ولوحتي البورتريه الرئاسيَّتين الرسميَّتين لباراك وميشيل أوباما، بريشة كِهينده وايلي وأيمي شيرالد على التوالي، تقرن التقليد بالثقافة الشعبية. بفضلها، يبدو هذا الفن أقلّ ازدحاماً وأشدّ وضوحاً.
يعلّق أنطوني بارزيلاي فروند، مدير الفنون الجميلة لدى 1stDibs: "لوحتا البورتريه للزوجَين أوباما رسميتان لكنهما تتّسمان بطابع ودّي، ضخمتان لكن فيهما استنارة نفسية، وتُظهران ما يمكن أن تكون عليه لوحات البورتريه المرسومة في عام 2022"، مضيفاً: "للبورتريه جاذبية متجدّدة بسبب طابعه الحسّي والرسمي وقوّته التعبيرية، إنما أيضاً بفضل الانتشار الأخير لمعارض اللوحات التصويرية بريشة أليس نيل وديفيد هوكني وجوردان كاستيل وجيني سافيل وأليكس كاتز". تثير رسوم البورتريه بريشة لوسيان فرويد، والتي انتهى عرضها في National Gallery حتى 22 كانون الثاني (يناير) الماضي، أصداء قويّة في لندن حالياً.

لكن، كيف تختار فناناً تكلّفه رسم بورتريه لك؟ عليك أن تجري بعض البحوث أولاً. أنشأت جمعيّتا Royal Society of Portrait Painters وPortrait Society of America برامج مرتبطة بمعارضهما تتيح الاطّلاع على مجموعة منوّعة من الأساليب والأذواق، ويمكن أن تساعد على إرساء بعض الأسس. يقول مولد: "لكن لا تتّخذ قراراً بالاستناد إلى لوحة بورتريه أو اثنَتين"، مضيفاً: "يمكن أن ننجذب كثيراً إلى الطابع الإنساني للشخص موضوع البورتريه، إلى درجة أن ذلك قد يضلِّلنا. يجب النظر إلى مجمل أعمال الفنان للخروج بفكرة حقيقية عنه".
"بات أمراً سحرياً أن نشهد على بورتريه مرسوم يدوياً"
ضروريّ أيضاً التوقّف عند "المدارس" المختلفة للفن التصويري، يضيف الفنان تاي - شان شيرنبرغ الذي ذاع صيته في مجال رسوم البورتريه الرسمية – من الملكة الراحلة إليزابيث الثانية إلى ستيفن هوكينغ – والذي يتّسم أسلوبه في رسم الخطوط والأنماط بطابعٍ تعبيري جداً. وبحسب شيرنبرغ، العضو في لجنة التحكيم في جائزة Sky Arts’ Portrait Artist of the Year، إذا كان "الشَّبَه" هو الهدف الوحيد، إلى درجة يبدو معها رسم البورتريه صورة فوتوغرافية، يمكن أن يخسر البورتريه ميزته بصفته عملاً فنّياً: "أحياناً، حين يكون الشَّبَه مذهلاً فيما تفتقر لوحة البورتريه إلى الروح، لا يتكلّم أحد عليها من جديد. تحتاج إلى فنان قادر على تجسيد الروح".


لمن يبحثون عن إرشادات، يمكنهم التوجّه إلى الوكالات المتخصّصة في الأعمال الفنية المصمّمة على الطلب، مثل Fine Art Commissions، وهي صالة عرض مقرّها لندن تؤمّن خدمة ربط العملاء بالفنانين لرسم لوحات البورتريه، أسّستها ساره ستيوارت، الوسيطة والخبيرة المخضرمة في هذا المجال، وتستطيع وكالتها أن ترشدك خطوة خطوة لإتمام العملية. لا شكّ في أن أشخاصاً ممن يسعون إلى تكليف فنان يتّكلون على إحساسهم الفطري. قامت أليكس إيغل، وهي قيّمة على المعارض ورائدة أعمال متخصّصة في أسلوب الحياة المترف، بتكليف فنانين تعرّفت إليهم من طريق أصدقاء أو اكتشفتهم عبر Instagram، إنجاز عدد كبير من رسوم البورتريه لأفراد عائلتها. ومن هؤلاء الرسّامة اللندنية فانيسا غاروود التي رسمت أولاد إيغل عند ولادتهم؛ وإسحق بنيغسون الذي تصف إيغل عمله بأنه "ساذج جداً، ومفعمٌ بالمرح"؛ وأنجليكا هيكس، الرسّامة التصويرية والناقدة الساخرة من نيويورك التي تعمل مع علامات تجارية مثل Gucci؛ وكريستابل بلاكبرن التي تتميّز بأسلوبها التجريدي السهل والبرّاق. تقترح إيغل بأن تزوّدوا الفنان الذي تختارونه بـ"عدد كبير من الصور العفوية للشخص بعيداً من تلك التي يظهر فيها متموضعاً لالتقاط صورة له، وعند رسم وجود الأولاد خصوصاً، يجب تزويد الفنان بصورٍ يبدون فيها بحالةٍ خرقاء جداً. فهي تعطيه فكرة عن طبيعتهم الحقيقية، ولا تحفظ لحظة معيّنة فحسب، إنما تحفظ أيضاً مزاجاً معيّناً".

تقول بلاكبرن: "يعتبر فنانون كثر أن سيرة الإنسان تكمن في سمات وجهه، لكنني أحبّ أن أروي الحكاية من خلال رسم الشخص كاملاً"، مضيفةً: "ليس الأمر جسداً فحسب، إنما أيضاً الطريقة التي يتواءم بها الحذاء مع القدمَين. تستهويني مراقبة الغرباء، فيمكنك أن تستشفّ الكثير من الطريقة التي يحمل بها المرء هاتفه. إنها الخصائص كلها التي يتميّزون بها...". في العادة، تعقد بلاكبرن اجتماعاً أوّل مع عميلها، ثم تباشر العمل مستندةً إلى صوره الفوتوغرافية، وغالباً ما تركّز في عملها على العناصر الرمزية أو المهمّة في حياته، بعد موافقته على المفهوم الفني بإطلاعه على رسمٍ أوّلي. تعلّق إيغل: "ثمة جانب فائق الذكاء في أعمال كريستابل، فهي تجريدية إنما شديدة العناية بالتفاصيل. يبدو الأشخاص في اللوحة خطوطاً تجريدية، لكنك تعرفهم جيداً".
ساره هوغايت قيّمة أولى على المجموعات المعاصرة في صالة العرض National Portrait Gallery، هي تسدي النصيحة الآتية: "حتى لو كنت تحبّ أعمال فنانٍ معيّن، يجب أن تشعر بأن ثمة صلة بينكما حين تلتقيه، وإلا فلن يتكلّل العمل بالنجاح. إنها مسألة حميمة جداً". ينطبق ذلك بوجهٍ خاص إن كنت تطلب لوحة بورتريه لشريكك أو لشريكتك، كما تقول، مضيفة: "بيّنت لي تجربتي أن شريك الشخص الذي يُرسَم له البورتريه هو الأكثر انتقاداً، فهو لا يتعرّف إلى شريكه في اللوحة، إذ ينظر إليه انطلاقاً ممّا كان عليه وليس ممّا هو عليه الآن. يجب أن يفكّر الشريكان في ما إذا كانا سيتمكّنان من تقبّل عملية الرسم هذه، واللوحة بذاتها".
تنصح ريتش بمزج الأشياء معاً و"الإقدام على الخطوة"، وتكليف فنّان يؤثّر فيك حتى لو لم يكن معروفاً برسم البورتريهات. تقول: "تحلَّ بالشجاعة! أقصى ما يمكن أن يحدث هو أن يرفض الفنان طلبك. ويمكن أن تكون النتيجة لافتة جداً". تلقى هذه الخطوة دعماً من صالة العرض National Portrait Gallery: ما زالت تكلّف رسّامي بورتريه تقليديين، لكنها تحتضن الآن فنانين من مختلف المشارب يهتمّون برسم الوجه ولغة الجسد والتعابير، كما تقول هوغايت مضيفةً: "نحاول القيام بالأمر بطريقة مختلفة. إنه تحدٍّ جميل يخوضه الفنان أيضاً".
"لا تحفظ لحظة معيّنة فحسب، إنما تحفظ أيضاً مزاجاً معيّناً"
حين تفتح صالة العرض أبوابها من جديد العام المقبل، بعد خضوعها لعملية إعادة تصوّر على نطاق كبير، ستكون لوحة بورتريه زادي سميث بريشة الفنانة النيجيرية - الأميركية تويين أوجيه أودوتولا من الأعمال اللافتة التي ضمّتها الصالة حديثاً إلى معروضاتها. تقول هوغايت: "التآزر بين الفنان والشخص موضوع البورتريه هو الأساس. كان أمراً مهماً لزادي أن ترسمها فنانة سوداء؛ يبدو جليّاً تماماً الاحترام المتبادل الذي تكنّه كلٌّ منهما لعمل الأخرى. إنها لوحة قويّة حقاً، وبالحجم الكامل، ولا تجد فيها شيئاً عادياً".


يضيف الفنان التصويري كورتيس هولدر، وهو أستاذ سابق في المدرسة الابتدائية حائز جائزة Sky Arts’ Portrait Artist of the Year لعام 2020: "ضروري أن نفهم ما يتوخّاه الشخص من لوحة البورتريه، عاطفياً وعلى مختلف الصّعد الأخرى، ومهمّ أن يتفاعل الأشخاص عاطفياً مع أعمالي". البصمة الخاصة التي يتميّز بها هولدر هي الخطوط والأنماط المرسومة بقلم رصاص ملوّن: يستخدم طبقات رقيقة من غواش الأكريليك الذي يُرَشّ بالرذاذ كي تظهر تحتها الخطوط والأنماط المفعمة بالطاقة. يروي هولدر: "أكثر من مرة قال لي عملاء إن الأسلوب المجزّأ والطابع الجمالي غير المقيّد يذكّرانهم بولدهم الذي يعاني اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط أو التوحّد، وربما يجد صعوبة في البقاء ساكناً بلا حراك. ونظراً لأنني عملت مع الأولاد، يشعرون أنني مطّلع على بعض الأمور التي تتعلّق بهم".
خلافاً للتوقّعات، الأولاد هم في الواقع أفضل مَن يجلس أمام الفنان كي يرسمهم، كما يقول هولدر، مضيفاً: "حين يدركون ماذا ينتظرهم في نهاية المطاف، يبرعون في أداء المهمّة، لا سيّما إذا كان لهم شقيق أو شقيقة يتنافسون معه أو معها".
أياً كان الشخص في إطار الصورة، يجب تسهيل المسار بطرح الأسئلة، بحسب نصيحة هوغايت. كُن صادقاً مع نفسك بشأن ما إذا كان الشخص قادراً على التزام الوقت الذي يحتاج إليه الفنان، وواضحاً بشأن عدد الجلسات المطلوبة، ومكانها. يعمل بعض رسّامي البورتريه المعروفين، مثل جوناثان ييو، الذي رسم عدداً كبيراً من الشخصيات ابتداءً بدِنيس هوبر وانتهاءً بطوني بلير، من خلال تطبيق Zoom، وهذا يجعل تجربة الجلوس أمام الفنان للحصول على رسم بورتريه متاحةً لجمهور أوسع.
حين ينتهي كل شيء، اجلس مع لوحة البورتريه لبعض الوقت. "الفن أمرٌ باطني وذاتي، وليس معهوداً أن تشعر فوراً بالارتياح عند النظر إلى اللوحة"، كما يقول مولد. تَذكَّر، يصعب توقّع ما يمكن أن ينتجه حتى أعظم الفنانين، بحسب ريتش التي تضيف: "أحياناً، يُظهرون شيئاً لا تريد الكشف عنه. لكن حاول أن تكون منفتحاً. إن كنت تحبّ الفن، فاترك لهم الحرّية".