مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

صحة

النشاط كلّه في بوسيتانو

هل يمكن إقناع زوّار أمالفي الإيطالية بالاستعاضة عن الباستا والتقاط الصور بالمشي في الجبال وممارسة اليوغا عند شروق الشمس؟

الفناء الخارجي وحوض السباحة في Le Sirenuse الفناء الخارجي وحوض السباحة في Le Sirenuse

باتت قوّة العلامة المميّزة dolce vita (الحياة الحلوة) متجذّرة جداً إلى درجة أن الأشخاص يربطون هذه المنطقة الإيطالية ببضعة أشياء فقط"، كما يقول فرانشيسكو سرسال فيما يسير صعوداً في مسار جبليّ حيث يُزهر النبات الخريفي آخر مرّة في هذا الموسم. ووفقاً له، هذه الأشياء هي: تناول الكثير من الباستا، والتقاط صور سيلفي عند غروب الشمس أمام جدران البلدة الداكنة، والجلوس على الشاطئ. يتابع فرانشيسكو: "يأتي الأشخاص ويتأمّلون البحر ويمسكون بأيدي بعضهم بعضاً، ويذهبون في رحلة في القارب. والأجواء كلها رومنسية وجميلة جداً، ثم يغادرون. بالطبع، لا خطب في ذلك. لكن قلّة من الأشخاص تدرك أن لقرية بوسيتانو جانباً مختلفاً تماماً إن نظرت في الاتجاه الآخر".

ينتمي فرانشيسكو إلى الجيل الثالث من عائلة سرسال على رأس فندق Le Sirenuse في بوسيتانو، الذي فتح أبوابه للمرّة الأولى في عام 1951، ويشهد اليوم بلونه الأحمر الداكن على سحر العالم القديم. قطع الفندق، منذ انطلاقته، أشواطاً كبيرة لتعزيز التجربة الحسّية نفسها التي يسعى فرانشيسكو إلى التدقيق في شوائبها: يتوافد آلاف السيّاح – معظمهم أميركيون وأزواج – إلى فناءات الفندق في كل صيف ليعيشوا تجاربهم الخاصة في أمالفي الإيطالية التي تفوح منها رائحة الليمون، ويحتل فندق Le Sirenuse الصدارة في جدول رحلات المغامِرين الميسورين ممّن يسعون إلى عيش الواقعية الجديدة للفنتازيا الإيطالية على طريقتهم الخاصة. مَن يقف خلف ذلك هو جون شتاينبك، الكاتب الذي عاش في منتصف القرن العشرين وتحدّث في كتبه عن أسفاره، وقد توجّه إلى بوسيتانو في مهمة لحساب مجلّة Harper's Bazaar في عام 1953، وسرعان ما وقع تحت سحر "المنزل العائلي القديم الذي حُوِّل إلى فندق من الطراز الأول" بإدارة الماركيز باولو سرسال، وكان حينها عمدة البلدة.

المنظر من جبل مونتي كوميون
يشمل البرنامج الممتد أسبوعاً ممارسة اليوغا ورياضة بيلاتس يومياً

كتب شتاينبك في رسالته: "تترك بوسيتانو أثراً عميقاً". باتت هذه العبارة شعاراً غير رسمي لفندق Le Sirenuse الذي يبيع قمصاناً رياضية طُبِعت عليها الجملة نفسها في متجره النموذجي الواقع قبالته تماماً.

كان شتاينبك ذكياً بما يكفي ليدرك التحدّيات الجيولوجية والاقتصادية التي يطرحها التسويق لبلدةٍ تربض على جرف عموديّ شديد الانحدار. "عدد سكان بوسيتانو نحو 2,000 نسمة، وتتّسع البلدة لنحو 500 زائر، لا أكثر. لا أماكن خالية في المنحدرات كافة". بالطبع، لم تكن مواقع التواصل الاجتماعي موجودة كي يُعوِّل عليها. في الواقع، يستمتع الآن نحو خمسة ملايين زائر بأوقاتهم على ساحل أمالفي في كل صيف، وقد تحوّلت بلداته إلى سمات أساسية في حياة المؤثّرين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يفوق عدد المشاهدات لحساب AmalfiCoast# على موقع TikTok نحو 514 مليوناً. بعدما شهدتُ على الارتفاع الكبير في أعداد الزوّار الذين حاولوا السير في شوارع بوسيتانو الضيّقة في الأحد الأخير من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لا يسعني إلا أن أتخيّل كيف كان شتاينبك يستمتع في ما مضى بخلوّ البلدة من الزوّار، ويا له من أمرٍ مجيد.

الكاتبة في بوسيتانو على ساحل أمالفي

التحق فرانشيسكو بالعمل في هذا القطاع في عام 2020، بعد فترة قضاها في نيويورك، وهو يرى أن مستقبل بوسيتانو يكمن في فتح هذه المنطقة أمام المسافرين بتمديد الموسم من دون إثارة الكثير من الصخب. خلال العام المنصرم، عمل على برنامج Dolce Vitality المتاح لنحو 24 ضيفاً مدّة أسبوع، ويتخلّله المشي، وممارسة اليوغا عند شروق الشمس، والتدليك والصيام (أو بالأحرى تناول الطعام بطريقة واعية جداً). يُنظَّم البرنامج في ختام أشهر الصيف، فعندما يميل المناخ إلى البرودة، تكون الحياة النباتية أكثر وفرة، وتتضاءل أعداد الزوّار إلى حدّ كبير.

يبدو برنامج Dolce Vitality جميلاً، لكنه عقاب شديد"

ربما يبدو برنامج Dolce Vitality جميلاً، لكن سرعان ما اكتشفت أنه عقابٌ شديد. سرنا 40 دقيقة في جبل مونتي كوميون، ثم مشينا صعوداً أربع ساعات في مسار Le Tese الانحداريّ خلف بوسيتانو، قبل أن نصل إلى أرض رأسية تطلّ على خليج نابولي، فتنقشع المناظر بوضوح أمام العينَين. تسارعت نبضات قلبي بشدّة إلى درجة أنني خشيت أن أتعرّض لنوبة قلبية. لم يكفّ فرانشيسكو عن التحدّث ببهجة عن المواقع الرائعة والمعالم التي لم تفسدها يد الإنسان حيث كنّا نمشي. انطلق الدليل المدعوّ جيوفاني، وهو رياضيّ يشارك في سباقات ترياثلون ويمارس الركض صعوداً كما الماعز في المسارات الجبلية، بحثاً عن توت محليّ مذاقه كمذاق توت العلّيق المحبحب جداً. كانت ابنتي التي اصطحبتها معي للاستمتاع والترفيه، تنظر إليّ شزراً وتتوسّل إلينا كي نعود أدراجنا.

حتى الآن، الاختبار شاقٌّ جداً، علماً أنني اخترت نسخة مختصرة من البرنامج الرسمي الذي يمتدّ أسبوعاً كاملاً، ويشتمل يومياً على ممارسة اليوغا ورياضة بيلاتس (إضافة إلى تقييمات لتركيبة الجسم، وقوائم طعام مُعَدّة خصّيصاً للأشخاص ومؤلّفة من أطباق من الأسماك وثمار البحر أو أطباق نباتية، وتدليك يومي). شاركنا في نزهتَين فقط من النزهات الخمس المعتادة سيراً، وعدّلتُ في مواعيد اليوغا التي تُمارَس عند شروق الشمس وفقاً للبرنامج، فاخترت توقيتاً أكثر إنسانية، عند التاسعة والنصف صباحاً. ولم أفكّر حتّى في تناول الطعام من القوائم المحدّدة للحفاظ على العافية والرفاه، لأنني لن أتخلّى مطلقاً عن بوفيه الفطور المؤلّف من أطعمة لذيذة غنيّة بالغلوتين ومشتقّات الحليب، وتحتوي على كميّات كبيرة من النشويات، والتي من شأنها أن تدفع بجميع المتخصّصين في الحفاظ على الصحة والرفاه، والذين يتحلّون باحترام الذات، إلى النحيب. إنه جنون الحياة.

خريطة لمسار Croce di Nocelle الدائري أعدّتها ريبيكا كامبل

لكنك لست مضطراً إلى التسجل في برنامج للحفاظ على العافية والرفاه أسبوعاً كي تكون مغامرتك في أمالفي أكثر مراعاة للمعايير الصحية. باستطاعة أيٍّ كان أن يستمتع بالسير في الممرّات الكثيرة التي تربط بين القرى المعزولة على قمة التلّة. لا شكّ في أن الناس معتادون على مسار Il Sentiero degli Dei، أي "مسار الآلهة"، وهو درب سابق للبغال يمتدّ من بومرانو إلى نوسيل، تماماً فوق بوسيتانو. لكن لمَ السير صعوداً في مسار سياحيّ مبتذل يعبره المئات في حين أن المسار شبه المغمور Croce di Nocelle يقع بمحاذاته، وهو درب دائريّ يقودك إلى قمة جبل مونتي فانيولا، يتميز بمخابئه الدراماتيكية في سفوح المنحدرات، قبل العودة نزولاً عبر قرية مونتيبرتوسو والمرور أمام فيلات Liparlati التي كانت ملكاً للتجّار القدامى؟ وهناك أيضاً مسار Casterna Forestale الذي يستغرق عبوره أربع ساعات وسط غابات السرو والصنوبر، والذي كان كاهنٌ من بلدة فيكو إكوينس المجاورة يسلكه كل يوم أحد بين عامَي 1951 و1976، وحيث يُستبعَد أن تلتقي أيّ كائن بشري آخر.

تقدّم التلال منظوراً مختلفاً تماماً للمشهد الطبيعي الذي يمكن اختزاله بمناظر قليلة نمطية لمغيب الشمس. لكن عبورها ليس سهلاً. في اليوم الثاني، مشيت وحدي مع جيوفاني إذ رفضت ابنتي مغادرة شرفة الفندق (ومَن يلومها؟)، وصعدنا درجاً أسمنتياً بدا بلا نهاية، في تجربة ليست أكثر إشباعاً من الناحية العاطفية من الركض 30 دقيقة على آلة رياضية تحاكي شكل الدرج. لكن، حين يختفي الأسمنت وتحلّ مكانه أخيراً المسارات الجبلية، يقف المرء على الفور مدهوشاً أمام المنظر. يبدو الهواء مختلفاً، ورائحته مختلفة؛ ويبدو المكان بمساحاته الخصبة أشبه بجبال الألب. يراودك أيضاً شعورٌ بالاطمئنان النفسي عند السير في دروب قديمة سلكها في الماضي قرويون لم تتوفّر لهم طرقات أخرى. استذكر جيوفاني جدّه الذي كان يشقّ طريقه بصعوبة نزولاً في الجبل حاملاً معه شرائح لحم خنزير لمقايضتها بحطب للموقد مرات عدة في الأسبوع. وكان الأولاد يسلكون هذه الدروب إلى المدرسة. حين يردّد بعضهم أن الفضل في العمر المديد للإيطاليين وقدرتهم على التحمّل يعود إلى نظامهم الغذائي المتوسطي، ينسون أن شرائح كبيرة من السكان كانت، حتى الآونة الأخيرة، تتنقل مشياً في ماراثون يوميّ أيضاً.

في الفندق، اعتنى المعالِج المتخصّص في التدليك بعضلات ربلتَيّ وكأنّه مصارع سومو (بإمكان ضيوف Dolce Vitality المنتظمين أن يختاروا الخضوع لتدليك Theragun "النقري"). ثم فكّرت في القفز في مسبح النادي الصحي الشديد البرودة، لكنني اخترت، بدلاً من ذلك، تناول بيتزا واحتساء شراب Limoncello الفوّار. كذلك، تساهم اليوغا الصباحية، بقيادة مدرّبة أميركية لطيفة تُدعى جينيفر فاراكومسكي، في إنقاذ عضلاتي من الضمور التشنّجي.

في غضون ذلك، بدأت بوسيتانو تحوّلها التدريجي نحو السبات الشتوي الطويل. فُكِّك مرسى الشاطئ، وبدأت طواقم المراكب بإلقاء تحيّة الوداع. بات الطقس بارداً في المساء، ويمكنني أن أحجز بسهولة في المطاعم. قمتُ بغطسةٍ أخيرة في المتوسط، وشعرت بالانقباض الشديد الذي يرافق حرّ الصيف فيما يلفظ أنفاسه الأخيرة. بعد ثلاثة أيام، لا أشعر بالحيويّة فحسب، بل أشعر بطاقة متجددة لا نهائية. لكن، كانت عضلات ردفَيّ تؤلمني كثيراً، فاضطُررت إلى الإمساك بمؤخرتي وأنا أسير في المطار في طريق العودة.

حلّت جو إليسون ضيفة على فندق Le Sirenuse؛ تبدأ أسعار الغرف من 685€. تُنظَّم النسخة المقبلة من برنامج Dolce Vitality من 19 إلى 25 آذار (مارس)، بسعر 8,500 يورو للشخص الواحد، sirenuse.it

شارك برأيك

0 تعليقات