تجاذبُ أطراف الحديث مع سائق سيارة أجرة في القاهرة، أو أحياناً مجرّد ركوب سيارة أجرة، يتيح للزائر أن يجسّ نبض المكان، مثلما هو الحال في مدن عربية كثيرة. في أوّل ليلة قضيتها في العاصمة المصرية، ركبت سيارة أجرة بيضاء متهالكة كانت تمرّ أمام الفندق حيث أنزل، ودخلنا الاكتظاظ المروريّ الأخطبوطيّ في كورنيش النيل. بعدما راقبني سائق سيارة الأجرة في مرآة الرؤية الخلفية برهةً من الوقت، بادرني بحديث سرعان ما تحوّل من المجاملات (من أين أنا، ماذا أفعل في القاهرة) إلى سيرة حياته وعمله، ثم الحركة المرورية، ولاحقاً صار الناس محور حديثنا. "لا أعرف لماذا يركض الجميع هنا. ليست البلاد بأفضل حال، لكنّ الغريب أن السيّاح عادوا، والأمور تسير ولا ندري كيف"، قال.
هذه الألفة السهلة، العفوية وغير المتوقعة، حوّلت اللقاء إلى مشهد مسرحيّ. في لحظات قليلة، عبّر السائق عن وضع مصر الراهن بكلمات قليلة اختزلت بأسلوب مكثّف المشقّات الدائمة التي تتخبّط فيها البلاد، ومساراتها صعوداً أو هبوطاً منذ ثورة عام 2011 التي أطاحت المستبدّ حسني مبارك. واختصر أيضاً انطباعات الناس وتصرفاتهم هنا، والتي تنطوي على أوجه تشابه إلى حدّ ما: طرق التعبير لديهم، وأملهم الحذر، وخفّة دمهم طبعاً، والسخرية كسبيل للترويح عن النفس، وفرح العيش الدائم الذي يعبّرون عنه بكلمة "معلِش" ("لا بأس").
لا توحي القاهرة أنها عالقة في الماضي، بالرغم من عظمة التاريخ المصري
في الليلة نفسها، عبرتُ جسر قصر النيل نحو ميدان التحرير، الذي تجدون على مقربة منه البطارخ المحلية الأشهى لدى مطعم Shaheen Caviar، وتُقدَّم مقطَّعة شرائح رقيقة على خبز محمّص (يُفضَّل أن يكون "العيش البلدي" المصري)، مع زيت الزيتون والثوم المفروم ورشّة من برش الليمون. في طريقي إلى هناك، راقبت فتى صغيراً يبيع غزل البنات وينفخ غيوماً زهرية في الهواء؛ وزوارق آلية تمخر عباب النيل بأضوائها المشعّة. هكذا بلمح البصر، وبين لحظة وأخرى، تُقدّم المدينة التي تبدو مضطربة ومتشنّجة وحادّة جداً، شيئاً هو أقرب إلى العذوبة الحلوة. الانتقال من حالٍ إلى أخرى يلاحقني أينما ذهبت في مصر.

إنه مزيجٌ مسكِر ألهب قلوب عدد كبير من المسافرين. قبل عام 2022، نادراً ما استقطبت النصب والمتاحف في مصر هذا القدر الكبير من الاهتمام، وهذه الأعداد الهائلة من السيّاح، المصريين والأجانب على السواء. وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجّلت السياحة الدولية قفزة كبيرة في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، مع دخول نحو 4.9 ملايين سائح إلى البلاد، بزيادة 84.5 بالمئة مقارنةً بالنسبة المسجّلة في عام 2021. من عوامل الاستقطاب افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية منذ فترة وجيزة، وفيه قاعة المومياءات المدهشة التي تضم 22 مومياء نُقِلت إلى المتحف في موكب ضخم في نيسان (أبريل) 2021؛ وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حلّت الذكرى المئوية الأولى لاكتشاف هوارد كارتر ضريح توت عنخ أمون في الأقصر. ومن المرتقب قريباً افتتاح المتحف المصري الكبير الذي طال انتظاره، وتبلغ مساحته نحو نصف مليون متر مربع، على مسافة ثلاثة كيلومترات من الأهرام، ويضمّ صالة عرض تختزن 100 ألف قطعة أثرية فضلاً عن تمثال ضخم للفرعون رمسيس الثاني. وأعلنت Dior أن كيم جونز سيطلق مجموعته الرجالية لموسم ما قبل الخريف أمام أهرام الجيزة في 3 كانون الأول (ديسمبر).

بين لحظة وأخرى، تُقدّم المدينة التي تبدو مضطربة جداً، عذوبة حلوة
أدّى الإقبال المتجدّد على دراسة علوم الآثار المصرية، بلا شكّ، دوراً مهماً في زيادة منسوب الحماسة لزيارة مصر بصورة عامة. لكن، بالرغم من عظمة التاريخ المصري، لا توحي القاهرة، وهذا مستغرَبٌ، أنها عالقة في الماضي، إنما نراها تتحوّل وتتطوّر، حضرياً وثقافياً على حدٍّ سواء.
عند إضافة مدينتَي القاهرة الجديدة و6 أكتوبر الملحقتَين الجديدتَين، تتّسع مساحة القاهرة إلى نحو 3085 كيلومتراً مربعاً. حين تجول هنا في السيارة، تشعر كأنك تتنقّل عبر مستوطنات عديدة مجمَّعة في مستوطنة واحدة، مختلفة كلّها في الشكل وكأنّها رواسب خلّفتها طبقات زمنية متعدّدة من حقبات الفاطميين والمماليك والخديويين، ثمّ حقبة العمارة الحداثية، الرابط بينها هو ألوانها الرملية وضوء الصحراء الوهّاج. في جانبَي الطريق الدائري، وهو عبارة عن جادةٍ واسعةٍ جداً تربط بين أوصال المدينة، المباني متصدّعة بما يكشف عن جدرانها الداخلية المطليّة بألوان الباستيل. قالت لي مهى القاضي، وهي عالِمة آثار مصرية تعمل مع شركة Abercrombie & Kent الاختصاصية المحلية: "في مطلع عام 2021، استيقظنا بين ليلة وضحاها على مشهد مغاير هنا: قرّرت الحكومة هدم نحو 400 مبنى لتوسيع هذه الجادة، من جملة أمور أخرى. طُرِد سكان المباني ومُنِحوا مساكن بديلة". بعد عامٍ، عمدت الحكومة أيضاً، في إطار ما سُمّي بحملةٍ لبناء الطرقات، إلى هدم أجزاء كبيرة من مدينة الموتى، وهي أقدم مقبرة في القاهرة، وكانت أيضاً حيّاً سكنيّاً للطبقة العاملة. أُزيل العديد من المنازل العائمة الأيقونية في النيل، وهُدِم بعضها، بما في ذلك المنزل الذي كتب فيه نجيب محفوظ الحائز جائزة نوبل للآداب.
للتصدّي لهذا الطمس العشوائي لكنوز الماضي، أُطلِقت مبادرات خاصة عدّة، منها Al Ismaelia (الإسماعيلية) التي يصفها الشريك في تأسيسها كريم الشافعي بأنها الشركة الأولى المتخصّصة في بثّ الحياة في أشياء كان مصيرها الهدم لولا هذا التدخّل: "ينصبّ تركيزنا على وسط القاهرة، حيث نشتري المباني التاريخية [التي يتراوح عمرها من 80 إلى 120 عاماً] ونعيد تأهيلها. رؤيتنا مختلفة جداً عن الإنشاءات في الضواحي، حيث التجربة مصنَّعة بالكامل".

من المشاريع التي تولّتها شركة Al Ismaelia ترميم مبنى "سينما راديو" الأسطوري الذي شُيِّد في عام 1932، وأحيت فيه أم كلثوم حفلات غنائية عدة. يشكّل وسط القاهرة بصورة عامة عيّنة عن وفرة التيارات المعمارية التي طبعت العاصمة المصرية، ابتداءً من الآرت ديكو ومروراً بالفن الجديد وانتهاءً بالعمارة الوحشية وما بعد الحداثية. يعرض محمد الشاهد – الذي يدير أيضاً حساب cairobserver@ التثقيفي على موقع Instagram – التطوّرات المعمارية على مدى أكثر من 120 عاماً في كتابه Cairo Since 1900: An Architectural Guide (القاهرة منذ عام 1900: دليل معماري). هذا الكتاب دعوةٌ لتذكّر المدينة من خلال نسيجها الحضريّ، وهو أيضاً صرخةٌ لحراك يحمي إرثها النفيس، أي تلك المباني التي يجسّد كلّ مبنى منها حقبة زمنية معيّنة، أو يذكّرنا على الأقلّ بأن تلك الحِقَب الزمنية مرّت من هنا.

توقّفت لاحتساء القهوة مع البلح المغلّف بالشوكولا في أحد فروع مقهى Groppi العريق، حيث كان الشعراء والكتّاب والصحافيون والسياسيون يلتقون ويعيدون النظر في عالمنا، وسط كعك المرينغ بألوان الباستيل المصفوف كما المنحوتات على صوانٍ فضّية، وشراشف الطاولات المصنوعة بقماش الساتان. ما زال التصميم الداخلي المتهالك، إنما الأنيق نوعاً ما، يحتفظ بذكريات الماضي الرغيد. بمحاذاة المقهى صيدلية Stephenson Pharmacy التي أسّسها العالم الكيميائي البريطاني جورج ستيفنسون في أواخر القرن التاسع عشر، وبيعت لعائلة السمّان في مطلع أربعينيات القرن العشرين. أنجزت الفنّانة ياسمين المليجي دراسة طويلة تناولت فيها الأصناف المختلفة الموجودة في الصيدلية، من الجرار الصيدلانية والحقن الزجاجية إلى سجلات الوصفات الطبية؛ وتُعرَض هذه كلّها اليوم في ما يشبه الحجرة المخصّصة للتحف الأثرية. صديقتي نادية جوهر المقيمة في نيويورك، والتي شاركت في تأسيس علامة Gohar World التجارية المتخصصة بآنية المائدة مع شقيقتها ليلى جوهر الكاتبة في How To Spend It، نصحتني بزيارة صيدلية Stephenson Pharmacy؛ ويشار إلى أن الشقيقتين جوهر تبتاعان معظم مفارشهما من مصر. تقول نادية: "تتميّز مصر بمهارات عالية في الصناعات اليدوية وبرصيد كبير من الخبرات. صقلَ الأشخاص المواد والأساليب وتناقلوها من جيل إلى آخر. نريد أن يدوم ذلك".

المعماريّ رمسيس ويصا واصف هو أيضاً من الذين عقدوا العزم على الحفاظ على هذه المهارات الحِرَفية. فقد أخذ على عاتقه، في المركز الشبيه بالواحة الذي صمّمه في عام 1951 – وهو بمثابة نموذج مثالي للغته المعمارية مع بنى مقبَّبة من الطين والقرميد وحديقة تجتاحها نباتات الجهنمية سعف النخيل – حماية فنّ النسيج المهدّد بالانقراض. في هذا الصدد، قامت استراتيجيته على تعريف الأولاد في قرية الحرانية المجاورة على نسج السجاد. "إنما أولاد من دون أفكار محدّدة مسبقاً"، كما يوضح مدير المركز الحالي إكرام نصحي، مضيفاً: "[هناك] قاعدتان: لا انتقاد ولا نَسخ. لماذا؟ لمنح الأولاد أكبر قدر ممكن من الحرية، وتجنّب التصحيح النقدي. فأمر الملمّين بالفنّ الغربي ينتهي دائماً إلى تقليده". من أصل 15 نساجاً من الجيل الأول، ثمة اثنان على قيد الحياة، إلى جانب حائكين أصغر سناً، يحوكون كلّهم السجاد بأناةٍ وتمهّل في ورش عمل سقوفها معقودة، تجاور المتحف.
تنمية الأشغال الحرَفية المحلية وحمايتها هاجسٌ مشترك لدى الجيل الشاب من الفنانين المصريين. ففي بلدٍ يحتضن هذا العدد الكبير من الرموز الطوطمية القديمة، يُبدي هؤلاء المبدعون حماسة شديدة لتدريبنا على التركيز على حفظ المهارات وصونها. ولا شكّ في أنّ هذا ما حفّز الفنان التصويريّ ومصمّم المنتجات أحمد حفناوي على إطلاق صالة عرض ومتجر Cairopolitan ذي المفهوم الخاص في عام 2006. في داخلها، تستلهم الأشياء أشكالها من العناصر العادية التي تؤلف الحياة اليومية في القاهرة، مثل إشارات سيارات الأجرة، وأرغفة العيش التقليدية، وعلب السجائر المحلية. يقول حفناوي: "ما يحفّزنا هو الإيمان بأن روح مصر لا تتجسّد في تاريخنا الفرعوني وحده، إنما أيضاً في التفاصيل العملية للحياة المعاصرة في القاهرة، المدينة التي كانت معقلاً لثقافات فرعية [عدّة] لفترة طويلة".

بعدما تناولت الغداء في مطعم كشري أبو طارق الذي يُعَدّ من أركان المطبخ في القاهرة، حيث يتراصف الناس في الطابور للحصول على طبق الكشري الفريد والذي يُحضَّر بالحمص والمعكرونة والعدس، تعرّفت إلى كريم الحيوان، المعماريّ والمصمّم الداخلي والمصوّر الفوتوغرافي الذي أطلق Cairo Saturday Walks (جولات السبت سيراً) في شوارع القاهرة في عام 2014. يشرح: "إنها حركة عضوية تطوّرت من تجربتي حين كنت أمضي أيام السبت وحيداً أستكشف شوارع القاهرة وأصوّرها"، مضيفاً: "انضمّ إليّ أصدقائي وحقّق المشروع انتشاراً أوسع. بات العدد الآن 500 عضو محلّي ودولي، ونقيم معرضاً سنوياً [للتصوير الفوتوغرافي] يعود ريعه لإحدى المناطق التي نزورها في جولاتنا". يقع مشغل الحيوان في حيّ الزمالك الذي يضمّ أيضاً Museum of Modern Egyptian Art (متحف الفنّ المصري الحديث). تقول مي الديب، مديرة مبيعات الشرق الأوسط في دار Sotheby's للمزادات: "في مصر واحدة من أقدم كليات الفنون الجميلة [خارج أوروبا]؛ كما أنّ بعضاً من أبرز الشخصيات اللامعة في الشرق الأوسط في الزمن الحديث مصريّ، مثل محمود سعيد ومحمود مختار". تتابع: "أحد المزادات التي أعمل عليها عن كثب مزاد نقيمه مرتَين سنوياً نعرض فيه أعمالاً فنية حديثة ومعاصرة من الشرق الأوسط، والفن المصري هو من أكبر القطاعات". هنا، في الزمالك، ازدهرت بيئة حاضنة لصالات العرض، منها صالات Ubuntu وTintera وArt Talks، وصالة Gypsum Gallery الواقعة على مسافة أبعد قليلاً في حي المعادي.
نبيلة عبد النبي هي أول قيّمة دوليّة متخصّصة حصراً بالشرق الأوسط في متحف Tate Modern. تقول: "المشهد الثقافي الراهن في مصر شديد التنوّع. تتراوح الصروح الثقافية من صالات عرض [صغيرة] إلى منشآت ضخمة". وبإِشارتها إلى المنشآت الضخمة، تقصد بالطبع تلك المعالم والمؤسسات التاريخية مثل المتحف المصري، ومسجد ابن طولون الأقدم في القاهرة والذي شُيِّد في القرن التاسع، ويُعتقَد أنّ مئذنته مستلهَمة من منارة الإسكندرية، وأهرام الجيزة. في كل واحد من هذه المعالم، يُصيبك عمق الحضارة المصرية بالذهول، ويختزل التحوّلات في الثقافات جاعِلاً منها مجرّد لحظات. لكنّ القوة اللامتناهية للأهرام ليست مستمدّة من عظمة تلك الجبال الخالدة المصنوعة من الحجر الكلسيّ فحسب، بل أيضاً من لغز بنائها: فبعد مرور 4,500 عام على وجودها، ما زال علماء الآثار يحاولون أن يفهموا كيف نجح بُناتها في نقل أكثر من مليونَي قالب من الحجر الكلسي والغرانيت، تتراوح زنة كل منها بين 2.5 و15 طناً، من ضفاف النيل إلى الجيزة، مروراً بمنطقة صحراوية.

في آخر ليلة قضيتها في القاهرة، تناولت العشاء مع منير وليلى نعمة الله الناشطَين في مجال الحفاظ على الإرث الثقافي، وذلك في شقّتهما المطلّة على النيل. يجسّد الأخوان أناقة القاهرة الآخذة في الاضمحلال، وهما عملا طوال عقود على تعميق جذورهما المصرية وتوسيع مشاريعهما إلى واحة سيوة في الصحراء الغربية، وهي مأهولة بالسكّان منذ عام 10,000 قبل الميلاد. قرّر منير إنشاء مشروع مستدام في المنطقة في عام 1996، قبل وقت طويل من تحوّل مفهومه إلى موضة رائجة ونزعة شائعة. ففندق Adrère Amellal الذي يملكه هو من أوائل النزل الصديقة للبيئة في شمال أفريقيا؛ في غضون ذلك، أسّست ليلى برنامجاً يتيح لنساء سيوة المتقدّمات في السنّ تدريب الشابّات على حِرفَة التطريز. تقول ليلى: "هذه كانت طريقتي لتمكينهنّ، ومساعدتهنّ كي يشعرن أنهنّ مستقلّات مادياً عن الرجال في عائلاتهنّ، وهذا ليس أمراً غير مألوف في هذا المجتمع المحلي". خلال الجائحة، أطلقت ليلى أيضاً علامة Udjat التجارية المتخصّصة في نمط الحياة، متعاونةً مع المصمم الفرنسي لويس بارتيليمي. "سيوة مكانٌ تشعر فيه كأنك خارج الزمن"، كما تقول ليلى التي تزيّنت بإحدى القلادات الذهبية الرائعة التي تصنعها منذ عام 1982 تحت اسم Nakhla (نخلة)، مستلهمةً تصاميمها من الجماليات الفرعونية.

أبحرتُ جنوباً عبر النيل من الأقصر إلى أسوان. هذه الرحلة، تماماً كما الرحلة إلى سيوة، تجعل المرء يشعر كأنه خارج الزمن قليلاً. في الأقصر، ما زال فندق Winter Palace الأسطوري، الذي يحافظ على حالته الأصلية وقد صار متداعياً لكنه باذخ كما كان دائماً، يرجّع صدى المؤثّرات التي تعود إلى حقبة الاستعمار البريطاني، مثل الآنية الفضية، والأثاث الذي بقي كما هو، وكبار الخدم والحدائق الوافرة. يبثّ معبد الأقصر، الذي أعيد افتتاحه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، أجواء ساحرة جداً حين تسافر الشمس لحظة المغيب عبر طريق الكباش المرمَّم. في معبد خنوم في مدينة إسنا، رأيت الأعمدة الداخلية، المرمَّمة والمبهرة، بعدما بقيت مغطّاة زهاء 2,000 عام. ثم توجّهت إلى معبد حورس في إدفو، وهو ثاني أكبر معبد بعد الكرنك ومن أكثر المعابد التي حُفظت. ختاماً، حين وصلت إلى أسوان في جنوب البلاد، قصدت مجمع معابد فيلة الذي شُيِّد في عهد الفرعون نختنبو (380-362 ق.م.)، قبل نقله في ستينيات القرن الماضي من موقعه الأصلي وسط مخاوف من أن تغمره المياه؛ منظره الآن رائعٌ، كأنه يعوم على مياه النيل.
تبدو هذه المعالم في تاريخ الحضارة المصرية مترابطة من خلال المنظر الطبيعي، حيث تنبسط صفوف من أشجار النخيل فوق سجادات من ورق البردى، والعشب الشبيه بالخيزران والكثبان الرملية بلون المغرة الصفراء. أحياناً، يجمع بينها مشهد مزارع وبقرته؛ وقوارب قديمة تتمايل ببطء في المياه؛ ومنازل من الطين والقرميد مهدّمة تحت أشعّة الشمس. الصور التي لم تتبدّل منذ القدم محاطة بذلك الضوء القزحي الألوان الذي يجعل النيل يشعّ بوهجٍ يختلف من ساعة إلى أخرى في النهار.

انتهت رحلتي في فندق Old Cataract، وهذا قصر أنيق إنما مغمور منذ عام 1899، جدرانه من التراكوتا ونوافذه ذات أطر بيضاء تطلّ على جزيرة إلفنتين، وفي الأفق الأبعد، على قرية نوبيَّة. بالرغم من أن Old Cataract يُعرف بأنه المكان حيث كتبت أغاثا كريستي روايتها Death on the Nile (موت على النيل)، وحيث وقع فرانسوا ميتران في عشق هذه البلاد، ما زال هذا الفندق كنزاً دفيناً لم ينل حقّه من التقدير. يربض الموقع على تلّة من الغرانيت، ويغلّفه الصمت نفسه الذي لاحقني خلال الرحلة في القارب، وتحيط به المناظر نفسها شبه السريالية. من غرفتي، وراء أشجار النخيل، رأيت مراكب الفلوكة تترنّح في مهبّ الرياح. هنا مجدداً، أشعر أنني خارج الزمن. نعم، خارج الزمن وليس في حقبة زمنية غابرة لأن أسوان، شأنها في ذلك شأن الأماكن الأخرى كلّها على طول الطريق الذي سلكته الرحلة البحرية، ليست مجرّد باب للدخول مباشرةً إلى مصر القديمة. إنها دعوة لتكبير الصورة وجمع طبقات من العوالم المختلفة التي تراكمت في هذه الأرض. وهذا هو على الأرجح السبب وراء السحر اللامتناهي الذي تتميّز به مصر: لقد تخطّت الزمن بطريقة ما.