مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

فنون

في منزلي معرض فني

مَن يختار مساحة عرض باهتة إن استطاع تنظيم عرض فني في غرفة الجلوس؟ كلوي آشبي تدخل الصالونات الحديثة في باريس

مالكا صالة العرض ألفرِد فان لِليفِلد وأوليفييه ترِبوسك © تقدمة Trebosc & Van Lelyveldمالكا صالة العرض ألفرِد فان لِليفِلد وأوليفييه ترِبوسك © تقدمة Trebosc & Van Lelyveld

هذا المكان من نوع الفناءات المرصوفة بالحصى التي قد تحلم بها إذا سُئلتَ عمّا يعنيه لك المبنى السكني الباريسي المثالي. ثمة نباتات في أصائص فخارية، لون ورقها أفتح قليلاً من بوابات الحديد الزخرفية. وثمة نباتات متعرّشة خضراء على جدار قديم وأكاليل زهر ملتفّة حول أنبوب صرف كما ضفائر رابّونزِل. حين تكون الشمس مشرقةً، تصنع أشعّتها خلفيةً بلون العسل للّوحات والمنحوتات التجريدية المعروضة في شقّةٍ في الطابق الأول تُستخدم صالةً للعرض، تملكها Louis & Sack.

Louis & Sack في شارع كور دو روهان © Louis & Sack

أنشأت أود لويس كارفيه وريبيكا ساك صالة العرض في شارع كور دو روهان في عام 2020. "وقع اختيارنا على هذا المكان لأنه ملهم وحافل بالإبداع والتاريخ"، كما تقول لويس كارفيه التي كانت ترأس سابقاً قسم الفنّ الآسيوي في دارَي المزاد العلني Aguttes وBonhams. يقع المبنى حيث صالة العرض على مسافة قصيرة سيراً من ساحة الأوديون، وقد شُيِّد في القرن السادس عشر تلبية لطلب الملك هنري الثاني، بناه لتسكن فيه عشيقته ديان دو بواتييه. وتحوّل منذ ثلاثينيات القرن العشرين إلى مركز للفنانين والكتّاب، أمثال بالثوس وسيمون دو بوفوار وجان بول سارتر، وفي عداد شاغليه حالياً مؤسسة Giacometti Foundation وفنانة النسيج الأميركية العظيمة شيلا هيكس.

تقول ساك: "حين قرّرنا إنشاء صالة العرض، رغبنا في أن تكون داخل شقّة. أردنا تقديم تجربة مكيَّفة مع الطلب ضمن مساحة خصوصية، وفي أجواء تحفّز على التأمل وتُسهّل التبادل". تُفتَح صالة العرض بناءً على موعد مسبق، وزوّارها من هواة الجمع هم القيّمون على الأعمال الفنية فيها.

داخل شقة العرض

صالة Louis & Sack واحدةٌ من عدد قليل من شقق العرض التي شاركت في الدورة الافتتاحية لمعرض Fine Arts Paris & La Biennale (الفنون الجميلة في باريس والبينالي) الذي انطلق في Carrousel du Louvre في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم. هذا الحدث عبارةٌ عن التقاء بين نشاطَين فنييَن ريادييَن – La Biennale المخضرم الذي تأسّس في عام 1956، ومعرض Fine Arts Paris الذي يحقّق نموّاً سريعاً منذ إطلاقه في عام 2017 – وهو المعرض الوحيد في باريس المخصّص للفنون منذ العصور القديمة حتى الزمن الحالي. خلال العقد المنصرم، ومع الزيادة في أعداد المعارض، ازدادت أيضاً أعداد صالات العرض التي تُقام داخل شقق سكنية؛ يصعب تحديد عددها بدقّة، لكنه يصل إلى نحو 40 وفقاً للتقديرات. يكمن سحر هذه الصالات في التوازن بين المعارض السريعة الإيقاع وشقق العرض الهادئة: "نعلم أنه كي يتكلّل عملنا بالنجاح، علينا المشاركة في المعارض، وأن الطاقة والحيوية والإبداع التي نختبرها في هذه النشاطات، فضلاً عن الأشخاص الذين نلتقيهم، تمثل عوامل أساسية لتطوير أعمالنا"، كما تقول لويس كارفيه، مضيفةً: "لكن، بعد تمضية أسبوع محموم في المعرض، رائعٌ دائماً أن نعود إلى أجواء أكثر هدوءاً للتفكير في ما رأيناه وتعلّمناه كلّه. وهذا ينطبق على عملائنا أيضاً".

"أردنا تقديم تجربة مكيَّفة مع الطلب في مساحة خصوصية"

يعود تاريخ شقق العرض إلى القرن السابع عشر، حين كانت صالات العرض ذات الواجهات في باريس قليلة ومتباعدة. بصورة عامة، كانت الأعمال الفنية تُشترى وتُباع في الصالونات أو في دور المزاد العلني أو مباشرةً من محترفات الفنانين. ومن التجّار الأكثر احتراماً جان باتيست بيار لو بران، زوج رسّامة البورتريهات الشهيرة إليزابيث لويز فيجيه لو بران (التي كانت صديقة ماري أنطوانيت والمفضّلة لديها)، إذ باع أعمالاً فنية في فنادق وفي منزله الزوجي في ماريه. وقد وثّقت إليزابيث جزءاً كبيراً من عمليات البيع هذه في يومياتها التي نشرتها بين عامَي 1835 و1837.

تتداخل شخصية جان باتيست بيار لو بران في حكاية اختصاصيَّي النحت أوليفييه ترِبوسك وألفرِد فان لِليفِلد؛ في أواخر القرن الثامن عشر، اشترى لو بران مجموعة الفيلسوف بارون دولباخ الذي كان يملك المباني حيث يقيم الآن مالكا صالة العرض ترِبوسك وفان لِليفِلد ويعملان. أُسّست صالة العرض Trebosc + van Lelyveld في أمستردام في عام 1992، وأقيمت فترةً في نيويورك، وفي عام 2003، صار مقرّها في الطابق الأول في منزل دولباخ السابق في شارع دي مولان. يقول ترِبوسك الذي درس، إلى جانب فان لِليفِلد، تاريخ الفنون في École du Louvre: "نعمل في سوق متخصّصة، لذا لا نتوقّع استقطاب عملاء من عابري السبيل. التعامل بأسلوب خصوصيّ هو طريقة فعّالة لإنجاز الأمور، إذ يتيح لنا تكريس المزيد من الوقت للبحوث ولاكتشاف أغراض جديدة".

 

تمثال نصفي لفيكتور هنري روشفور من توقيع إيميه جول دالو في صالة Trebosc + Van Lelyveld
لوحة Avalanche (انهيار)، 1963، بريشة توشيميتسو إيماي، لدى Louis & Sack

في الشقّة حيث تقع صالة العرض Trebosc + van Lelyveld في الدائرة الأولى، تنتصب منحوتات أوروبية تعود إلى مراحل ممتدّة من النهضة إلى القرن العشرين، على قواعد خشبية ورخامية، إلى جانب مفروشات من القرن الثامن عشر. تشمل القطع فراشة صغيرة مصنوعة بالبرونز للنحّات الهولندي فيليم دانيلز فان تِترودِه (بسعر 275,000€)، وتمثالاً نصفياً من الجص للصحافي فيكتور هنري روشفور يحمل توقيع النحّاتة الفرنسية إيميه جول دالو (بسعر 60,000€)، وقد عرضت القطعتان في معرض Fine Arts Paris & La Biennale. حين اشترى فان لِليفِلد وترِبوسك الشقّة، كانت قد حُوِّلت إلى مكاتب مع أبواب زجاجية وسقوف منخفضة. فعَمَدا، بمساعدة مصمّم الديكور الداخلي جاك غارسيا، إلى ترميم الشقّة كلّها وتزيينها بسجّاد جداري يجسّد اخضرار الطبيعة، وأرائك وثيرة وكراسٍ منجّدة مخملية. يستضيفان عملاءهما هنا، أسوةً بالفيلسوف دولباخ الذي اشتهر بفتح صالون مرتَين في الأسبوع مستقطِباً إليه بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون.

لوحة Portrait of a young girl (بورتريه فتاة صغيرة) بريشة أدولف أولريك فِرتمولِر، في صالة Galerie de Bayser © سيلفان دولو في Fine Arts Paris & La Biennale

فيما كان فان لِليفِلد يعتقد أنه يحلو لهواة الجمع اكتشاف الأعمال في أجواء تتطابق مع الحقبة الزمنية التي أُنجِزت فيها، يرى برونو وتريز دو بيزير اللذان نقلا صالة العرض التي تديرها العائلة إلى شقّة في شارع سانت آن في عام 1985، أنّ جاذبية البيئة المحلية مرتبطة بالطابع الحصري أكثر منه بالجماليات. "اشترى والدانا المكان لأنّ صالة العرض التي أنشأها أجدادنا في شارع دو فارين أصبحت صغيرة جداً"، كما يروي ماثيو الذي يشكّل مع أشقائه لويس وأوغوستين وباتريك الجيل الثالث على رأس المؤسسة. يتابع: "انجذبا فوراً إلى المكان. وبحسبهما، كي يتمكن المرء من رؤية العمل الفني جيداً، يجب أن يشعر أنه في مساحة خاصة. المضحك في الأمر أنّ جدّتنا اعتبرت أن والدي مجنون، وأنه لا يمكن أن تنجح صالة عرض بلا واجهة".

يشعر العملاء كأنهم في منازلهم؛ نتبادل أطراف الحديث فيما نحتسي القهوة في فنجان Sèvres"

صالة العرض Galerie de Bayser متخصصة في الرسوم واللوحات والمنحوتات التي تحمل توقيع فنانين كبار عرفتهم أوروبا منذ عصر النهضة حتى مطلع القرن التاسع عشر، والتي تُعرَض متحاذية في الشقة. يقع المنزل الذي يعود إلى القرن السابع عشر بعيداً عن الأنظار في الطرف الأقصى لأحد الفناءات، وقد شُيِّد في عام 1674 تلبيةً لطلب وزير الدولة لشؤون الحرب في عهد لويس الرابع عشر، الماركيز دو لوفوا، الذي بناه لأولاده. في الطابق الأول، يُفتَح بابٌ مصنوع بالحديد المطاوع باللون الأخضر الفستقي على جناح في الغرف الفسيحة، بُنيت جدرانها بالألواح الخشبية ورُصفت أرضياتها بباركيه فرساي. تقود الأروقة إلى العديد من المساحات الصغرى وإلى مكتبة كبيرة فيها مناضد صُنعت بخشب السنديان تحتوي على أرشيف مؤلف من 600 رسم. هناك مساحتان مخصّصتان للمعارض، بُطِّنت الجدران في إحداها بقماش حريري مطبّع أزرق اللون، فيما طُليت جدران الثانية بالأزرق الفاتح.

قطع معروضة في صالة Galerie de Bayser © سيلفان دولو في Fine Arts Paris & La Biennale
 
تمثال نصفي برونزي لإرنست ميسونييه من توقيع رينيه دو سان مارسو، في صالة Galerie de Bayser

 

رأس أفروديت رخامي من القرن الثاني ميلادي، في صالة Galerie de Bayser

يقول لويس الذي يشغل أيضاً منصب رئيس معرض Fine Arts Paris & La Biennale، ويتشارك مع ماثيو مكتباً مطلّاً على الفناء: "اشترى والدانا الأثاث في الثمانينيات، بما في ذلك رفوف الكتب النيوقوطية المصنوعة بخشب الماهوغاني والمقاعد بذراعين من طراز Louis XIII وEmpire". بمحاذاته يقع مكتب باتريك، وهو غرفة صفراء مشمسة تُستخدَم لاستقبال العملاء، واستضافتهم من حينٍ إلى آخر لاحتساء النبيذ وتناول العشاء، فيما يقع مكتب أوغوستين خلف الحديقة الشتوية. يقول ماثيو: "حين يأتي هواة الجمع، نخصّص الوقت اللازم لنزع الأطر عن الرسوم والتحقق من المراجع في المكتبة"، مضيفاً: "يتجوّلون من غرفة إلى أخرى، ويكتشفون أحياناً رسماً لم يُعلَّق بعد، ولم يكن في نيّتنا أن نعرضه عليهم".

منذ الأزمة التي عصفت بالاقتصاد العالمي في عامي 2007- 2008 المالية، ظهرت صالات عرض مؤقتة في شقق حول العالم – علماً أن قلّة منها تتّسم بعراقة تاريخ هذه الكنوز النفيسة في باريس وروعتها. يقول ماثيو إنها تتميّز بـ"أجواء حميمة تُفضي إلى نقاشات عميقة". وغالباً ما تكتسي طابعاً شخصياً إلى حدّ كبير – على جدران المكتب الذي يتقاسمه مع لويس رسومٌ بريشة جدّهما لوالدتهما – وتكتسي كذلك طابعاً نهائياً: فهذه المساحات المليئة بالأعمال الفنية والتي تُفتَح بناءً على موعد مسبق فحسب، هي وجهات بحدّ ذاتها وليست مساحات نمرّ عبرها نحو وجهة أخرى.

مؤسس Royal Provenance، مكسيم شارّون، أمام دار Opéra Garnier © تقدمة Royal Provenance

اختبر ماكسيم شارّون، الذي أنشأ Royal Provenance في عام 2014، العمل في صالة عرض في الطابق الأرضي لثلاث سنوات قبل أن ينتقل إلى شقّة مواجهة لدار Opéra Garnier في عام 2019. يقول عن الموقع الأول: "لم يُقنعنا تماماً، بالرغم من أن التوقيت قد يكون خاطئاً، وكذلك أدّى نمو أعمالنا عبر الإنترنت دوراً في اتخاذي هذا القرار [بالانتقال إلى المقرّ الجديد]". نظراً إلى حجم المساحة المؤلّفة من أربعة طوابق في شارع أوبير، يستطيع شارّون البالغ من العمر 36 عاماً أن يقيم، حين يكون في المدينة، وسط المعالم الأوروبية التراثية التي تمثّل مجال اختصاصه. تحتفظ الشقة التي شُيِّدت في حقبة العمارة الهوسمانية بقوالبها الأصلية وبشرفتها المصنوعة بالحديد المطاوع. قام شارّون بطلاء الجدران بالأزرق "الملوكي" لإبراز التطعيم المذهّب في الأطر والأغراض الزخرفية التي يتميّز عدد كبير منها بسماته الملوكية الخاصة، مثل طقم المائدة الفضي الذي صُنِع للملك لويس فيليب الأول (بسعر يتراوح من 20,000€ إلى 30,000€)، وتكمّله آنية للمائدة من Christofle مزيّنة بشعار النبالة الخاص بالملك (بسعر 15,000€). وهناك أيضاً تحفٌ لافتة مثل صندوق جلدي يحتوي على مفاتيح حدائق باريس الملكية، لا سيما حدائق فرساي، والتي يُرجَّح أن يكون لويس فيليب الأول قد أعطاها لابنه البكر دوق أورليان (بسعر 60,000€). وقد أصاب شارّون في اختيار هذه القطع لعرضها في معرض Fine Arts Paris & La Biennale.

مفاتيح الحدائق الملكية في باريس، في Royal Provenance

لكن بالرغم من المظاهر الملوكية، يريد شارّون أن تكون صالة العرض شقّةً باريسية "عادية"، أي منزلية الطابع، إنما أنيقة. يشرح: "نريد أن نعيد ابتكار تصميم داخلي قد يكون موجوداً في منازل هواة الجمع، ويتيح عرض الأغراض أو الرسوم لتبدو كأنها مجموعة في سياق خاص"، مضيفاً: "يشعر العملاء كأنهم في منازلهم؛ يأتون لتأمّل الأعمال والمنظر، ثم نتبادل أطراف الحديث فيما نجلس على أرائك مريحة ونحتسي القهوة في فنجان Sèvres أو نرتشف كأس شمبانيا". فهل تكتمل الشقّة الباريسية – أو شقّة العرض – بلا بورسلين فاخر وشمبانيا وشعار النبالة؟

0 تعليقات

شارك برأيك