يتذكر المرء المدن مثلما يتذكر الوجوه: لكل منها علامة فارقة ومميزة، تنطبع في الذاكرة كالدمغة تماماً. تتسم بعض المدن باللطف والدّعة، نثق ببعضها ثقة بلا حدود، ونركن إلى بعضها الآخر وكأنها صديق صدوق؛ ولبعض ثالث منها شعورٌ بالحنين، ولها في الذاكرة صدى الذكريات مع أصدقاء من طفولة بعيدة. في هذا العدد نزور الفنانة تشابالالا سِلف التي تعرض بعض أعمالها في لندن، وتتحدث إلينا عن ذائقتها في ما يتصل بالأزياء والموضة، كاشفةً أن ما يستهويها هي الأحذية "الأنثوية والجريئة". تقول إن أيقونتها في الأناقة هي والدتها، غليندا أم سِلف، التي كانت ترتدي بزّات جميلة جداً وتحبّ الألوان الزاهية، وتضيف: "لا شكّ في أنني أستعير الكثير من أسلوبها، لكنني أكثر مجازفة بعض الشيء في خياراتي في الموضة".
"حين تلتقط مجموعة صور في لفّة فيلم كاملة، يكون الأمر أشبه بلغز كبير"
بدورها، تظهر نيويورك في صور التقطتها جيسيكا لانغ بعدستها مدينة أزلية مشوّشة: تُعيدنا صور واجهات ملاهي التعري إلى حقبة السبعينيات، وتبدو صورٌ أخرى كأنها أصداء من القرن التاسع عشر. في إحدى الصور، تظهر فتاةٌ بالأبيض، صغيرة وحيدة، تقف على حافة بحيرة. تشرح لانغ: "توجّهت سيراً إلى سنترال بارك في ذلك اليوم، فوجدتها واقفةً هناك كما الطّيف". كانت لانغ في أربعينياتها حين تحلّت بالثقة لالتقاط الصور بنفسها. قدم إليها سام شِبارد، الممثّل والكاتب الذي كان شريكها طوال 27 عاماً حتى انفصالهما في 2009، كاميرا من طراز Leica. تروي: "بدأت التقاط صور حقيقية لأولادي. لم تكن مجرّد لقطات سريعة كما يحصل الآن، حيث يلتقط الأشخاص آلاف الصور على هاتفهم الخلوي لما يفعلونه وما يأكلونه على امتداد النهار". بثّت الكاميرا النشاط في عروقها من جديد. تقول: "حين تلتقط مجموعة صور في لفّة فيلم كاملة، يكون الأمر أشبه بلغز كبير... ما زال النظر للمرة الأولى إلى صفحات الصور المطبوعة يُثير حماستي. حين تظهّر صورة وتبرز أمام ناظرَيك، يبدو الأمر أشبه بعملية خيميائية".
الفن نفسه ينقلنا إلى باريس، ونتساءل مَن يختار مساحة عرض باهتة إن استطاع تنظيم عرض فني في غرفة جلوسه؟ يعود تاريخ شقق العرض إلى القرن السابع عشر، حين كانت صالات العرض ذات الواجهات في باريس قليلة ومتباعدة. كانت الأعمال الفنية تُشترى وتُباع في الصالونات أو في دور المزاد العلني أو مباشرةً من محترفات الفنانين. ومن التجّار الأكثر احتراماً جان باتيست بيار لو بران، زوج رسّامة البورتريهات الشهيرة إليزابيث لويز فيجيه لو بران (كانت صديقة ماري أنطوانيت والمفضّلة لديها)، إذ باع أعمالاً فنية في فنادق وفي منزله الزوجي في ماريه. وثّقت إليزابيث جزءاً كبيراً من عمليات البيع هذه في يومياتها التي نشرتها بين عامَي 1835 و1837. ومنذ أزمة 2007- 2008 المالية، ظهرت صالات عرض مؤقتة في شقق حول العالم، علماً أن قلّة منها تتّسم بعراقة تاريخ هذه الكنوز النفيسة في باريس وروعتها.

وإلى أبوظبي.. لنمضي ليلة في متحف اللوفر، حيث تعرض أعمال 10 فنانين وقع عليهم الاختيار لينال أحدهم جائزة Richard Mille Art Prize 2023، ضمن معرض Art Here 2022 (فن الحين 2022). تقول ريم فضة، مديرة المجمع الثقافي في أبوظبي ومنسقة المعرض المستمر حتى شباط (فبراير): "تسلط الجائزة الضوء على المستوى الفني الراقي في المنطقة، وهي تنبه إلى ماهية الحياة والفنّ عندنا، حتى يحظى فنانونا بالتقدير الذي يستحقونه". هذا المعرض هو ثمرة تعاون بين متحف Louvre Abu Dhabi وصانع الساعات السويسري Richard Mille، أراداه احتفاءً بفنٍ معاصرٍ آتٍ من دولة الإمارات ودول الخليج العربي. وقد اجتهد الفنانون العشرة ليبرزوا، كلّ منهم بطريقته وأسلوبه ومشاعره، كيف يتفاعل مفهوم الأيقونة مع ممارسات الفن المعاصر المختلفة، وكيف يمكن ذلك أن يوسع الأفق أمام تلاقح وجهات نظر فنية جديدة. وقد وقع الاختيار على هؤلاء وفقاً لمعايير ثابتة.

نزور في تامبيري في فنلندا معرضاً فريداً من نوعه؛ ها نحن في ضيافة توماس هوزيغو وبراد بيت ونِك كايف ومعرضهم الفني التعاوني الجديد. يقول هوزيغو: "أنتم تعرفون براد بيت الممثل، أليس كذلك؟ جسمه الرياضي المشدود العضلات، وهذه صورة له رسختها الأفلام في الأذهان. إنها صورة رائعة، أحبّها. فهو من أعظم ممثّلي جيله. لكنه أيضاً إنسانٌ مختلف، وأنا أعرف هذا الإنسان، وقد أتاح لي أن أتنفّس بطريقة جديدة. آمل في أن أكون قد فعلت له الأمر نفسه". ينبذ المعرض، الذي يحمل عنوان WE (نحن)، مفهوم الفنان المنفرد لصالح مقاربة أكثر تفاعلاً وجماعية في التعامل مع الفنون. إنها المرّة الأولى التي يعرض فيها بيت وكايف أعمالهما الفنية، فيما يعرض بيت عدداً من المنحوتات. وقد ساهم استكشافهم مهاراتهم الإبداعية معاً في بناء أواصر صداقة استثنائية بينهم. يضيف هوزيغو: "أُلقي بنا معاً في قبضة الصدمات والكوارث"، في إشارة إلى معاركهم المشتركة ابتداءً من الإدمان، لا سيما إدمان هوزيغو وبيت الكحول، وإدمان كايف الهيرويين في الثمانينيات، وانتهاءً بطلاق بيت وصراعه للحصول على حضانة الأولاد وما رافق ذلك من تغطية إعلامية واسعة، ووفاة اثنَين من أبناء كايف، وإدراك هوزيغو تعرّضه لسوء المعاملة في طفولته. ساهمت هذه الظروف الصعبة والقاسية جداً في تحريرهم من بعض الكوابح، وفي ترابطهم الآن بعلاقة يمكن وصفها بالرومانسية الأخوية.

وإلى جزيرة فينتوتين المتوسطية، حيث شيّدت الصائغة فرانشيسكا أمفيثياتروف منزلاً للاستجمام، يعود بها عميقاً إلى جذورها، على ما تروي. وأترك لكاتبة المقال أن تنقل لكم جمالية المكان. تقول: "أقف في وسط الكهف فلا أجد فيه زاوية مستقيمة واحدة. إنه مكان سحريّ جداً. غرف النوم الثلاث هي تجاويف في كلّ منها منصة نوم مرتفعة، وهذه أرقى تعديلات يمكن تخيّلها في غرفة صغيرة". في داخل الكهف وخارجه، نلاحظ أنّ الأثاث قليل، إلّا أنّ مزيج العصور والأنماط والمواد يمنح المكان شخصيته الوازنة. تقول أمفيثياتروف: "وجدت هذه المرأة الرائعة في تورينو، أورتينسيا كومبانسا، التي اشترت لي عدداً قليلاً من القطع الرائعة حقاً من سوق المنتجات العتيقة هناك". من بين هذه القطع مصباح أرضيّ مصنوع من أشجار نخيل الخوص يعود إلى السبعينيات صمّمه الفنان المكسيكي ماريو لوبيز توريس؛ ومجموعة من مصابيح الطاولة النحتية المعيارية الخاصة بعام 1977 أنتجتها شركة Yamagiwa الصناعية اليابانية.