عانيت نوبات اكتئاب طوال حياتي"، كما تقول الممثلة جيسيكا لانغ الحائزة جائزة أوسكار مرتَين، مضيفة: "تأتيني النوبات مدّاً وجزراً، ووجدت صعوبةً في فصل الحزن والاكتئاب عن شعوري القويّ بالوحدة".
تخيّم الوحدة من جديد على تفكير لانغ التي حدّثتنا من إيرلندا حيث تصوّر فيلماً مقتبساً عن مسرحية Long Day's Journey into Night (مسيرة يوم طويل نحو الليل). تقول: "يراودني ذلك الشعور بقوة أكبر الآن لأنني أؤدّي من جديد دور [ربّة الأسرة المدمنة على المخدرات] ماري تايرون. قرأت المسرحية وعددتُ المرات التي تلفظ فيها كلمة ’وحدي‘". وكان لأدائها الشديد الإتقان في أفلام مثل Frances (فرانسيز) وBlue Sky (سماء زرقاء) تأثيره فيها أيضاً.
![]() | ![]() |
صورتان التقطتهما الممثلة جيسيكا لانغ (إلى اليسار) في مانهاتن خلال جولاتها سيراً في فترة الإغلاق العام بسبب جائحة كوفيد © جيسيكا لانغ
لكنّ لانغ، التي تبلغ الآن 73 عاماً، وجدت العزاء في الجهة الأخرى من الكاميرا. في Dérive (انجراف)، كتابها الثالث للصور الفوتوغرافية، تخوض مباشرةً في الموضوع، وجاءت النتيجة لتسلّط الضوء على موهبتها في بثّ الكآبة بعينٍ فضولية. الكتاب روايةٌ بصريةٌ عن جولاتها سيراً في أرجاء نيويورك خلال فترة الإغلاق العام. عملت لانغ بنصيحة نجلها واكُر، ومارست فنّ الانجراف (dérive)، وهذا مفهوم اقترحه الفيلسوف الفرنسي غي ديبور الذي عاش في منتصف القرن العشرين، ويقوم على "تخلّي المرء عن جميع دوافعه المعتادة للحركة والعمل، كي ينساق وراء عوامل الجذب في المكان". لكن، بدلاً من تأجيج المزاج السائد، وجدت لانغ في السير على غير هدى حاملةً الكاميرا "مصدر راحة. بما أن نمطنا المعهود في التنقّل عبر المدينة محدّد ومحكوم بالوقت، فإننا لا ننظر حولنا"، كما تقول مضيفةً: "ينغلق الأشخاص حقاً داخل عوالمهم الخاصة. ينتابك شعورٌ بالغضب. إنهم على عجلة من أمرهم؛ فلا متّسع من الوقت للّطف".

تجسّد الصور التي التقطتها لانغ بعدستها مدينة أزلية مشوّشة: تُعيدنا صور واجهات ملاهي التعري إلى حقبة السبعينيات، وتبدو صورٌ أخرى كأنها أصداء من القرن التاسع عشر. في إحدى الصور فتاةٌ صغيرة وحيدة، ترتدي الأبيض وتقف قرب بحيرة. تروي لانغ: "توجّهت سيراً إلى سنترال بارك في ذلك اليوم، فوجدتها واقفةً هناك كما الطّيف".
اكتست مانهاتن المجرّدة من حيويّتها "طابعاً غامضاً انجذبتُ إليه فوراً"، كما تقول لانغ مضيفةً: "بدت كأنها في حركة معلّقة. لم يُخِفني ذلك بتاتاً، لكنه ما كان أمراً طبيعياً في تلك المدينة. فهنا، قد تعبر شارعاً تلو شارع تلو شارع من دون أن تصادف أحداً".
"أنجذب إلى شخصيات تبدو كأنها تسير على حبل مشدود بين الجنون والعقل"
تخرج لانغ من شقّتها في غرينويتش فيلادج وتسير مسافةً تصل إلى عشرة أميال في اليوم عابرة مناطق تكاد لا تعرفها. وكان المشرّدون الذين كانت تلتقيهم يتلهّفون لإخبارها قصصهم، فكانت النتيجة "تبادلاً إنسانياً لم أكن لأحظَى به في العادة حين تكتظّ الشوارع. اجتاحتنا جميعاً رغبةٌ شديدة في محادثة أحدهم". كذلك، تتواصل كوكبةٌ من الشخصيات الوحيدة الأخرى من خلال الكاميرا – يحدّق بائع سمك بالكركند، ويدخّن رجل عجوز غليوناً. تتابع: "حتى لو انقضى وقت طويل على التقاط هذه الصور، تشعر كأنّ الأشخاص فيها يحدّقون بك".
![]() | ![]() |
مارست لانغ فنّ الانجراف خلال جولاتها سيراً في أرجاء مانهاتن التي تظهر في صور التقطتها بعدستها © جيسيكا لانغ
"كان للمدينة طابعٌ غامض انجذبتُ إليه فوراً"
التصوير الفوتوغرافي شغفٌ قديم اشتعلت شرارته من جديد. نشأت لانغ في بلدة تُعرَف بصناعة الخشب المنشور في الغرب الأوسط، وفي أواخر الستينيات، قبل وقت طويل من دخولها عالم الشهرة من خلال فيلم Tootsie (توتسي)، حضرت دروساً في التصوير في جامعة مينِّسوتا. وأمضت أوقاتاً أيضاً برفقة روبرت فرانك وداني ليون، عملاقَي التصوير الفوتوغرافي الوثائقي الأميركي. تروي: "شاهدتهما يعملان؛ وبعض أصدقائي كانت لديه غرفة مظلمة لتحميض الأفلام في الحمام. كان جهاز تكبير الصور يوضَع على المرحاض، وتُرصَف الأغراض في حوض الاستحمام".
كانت لانغ في أربعينياتها حين تحلّت بالثقة لالتقاط الصور بنفسها. قدّم إليها سام شِبارد، الممثّل والكاتب الذي كان شريكها طوال 27 عاماً حتى انفصالهما في عام 2009، كاميرا من طراز Leica – وتمحورت الصور الأولى التي التقطتها حول موضوع الحياة العائلية. تروي: "بدأت التقاط صور حقيقية لـ [أولادي]. لم تكن مجرّد لقطات سريعة كما يحصل الآن، حيث يلتقط الأشخاص آلاف الصور على هاتفهم الخلوي لما يفعلونه وما يأكلونه على امتداد النهار".

بثّت الكاميرا النشاط في عروقها من جديد. تقول: "كنت بحاجة إلى ذلك في تلك المرحلة. كي أصحو. بنيت غرفة مظلمة في المنزل وبدأت بالتصوير وتظهير الصور وطباعتها". تستمدّ الدعم من سحر التصوير. "حين تلتقط مجموعة صور في لفّة فيلم كاملة، يكون الأمر أشبه بلغز كبير... ما زال النظر للمرة الأولى إلى صفحات الصور المطبوعة يُثير حماستي. حين تظهّر صورة وتبرز أمام ناظرَيك، يبدو الأمر أشبه بعملية خيميائية".
تنضح لانغ، عند الحديث معها، جاذبية مرحة واتّقاداً ذهنياً كما الفتاة الريفية المحنّكة في التعاطي مع حياة المدينة. لكنها أتقنت، في أربعة عقود صرفتها على الشاشة الفضية كما على خشبة المسرح، أداء دور الشخصية المتماسكة بالرغم من تصدّعها. تقول: "أنجذب إلى شخصيات تعيش الحياة إلى أقصى حدودها. أدّيت أدوار شخصيات تبدو كأنها تسير على حبل مشدود بين الجنون والعقل، مثل شخصيتَي بلانش دوبوا وفرانسِس فارمر". نقع على التجاذب نفسه في صورها الفوتوغرافية.
وإذ تبدو الكاميرا ترياقاً لاكتئابها، فإنها أيضاً علاجٌ من ضوضاء السينما. "فالتمثيلُ مجهودٌ جماعي إلى حدّ كبير. أما التصوير الفوتوغرافي فيمكنني تدبّره بمفردي". بحسبها، ينطوي التصوير على تفكير واستقلالية على حد سواء: "هذا هو الشعور الذي منحني إياه مفهوم الانجراف، كأنها مسيرة تأمّلية".