"غمرتني السعادة لرؤية الأعمال الفنية التي قدّمها الفنانون المختارون لنيل جائزة Richard Mille Art Prize 2023 لهذا العام، وتعكس قوة المشهد الفني الإقليمي الذي نسلّط الضوء عليه"، تقول ريم فضة، مديرة المجمع الثقافي في أبو ظبي ومنسّقة معرض Art Here 2022 في متحف Louvre Abu Dhabi. فإن زرت المتحف حتى 19 شباط (فبراير) 2023، يمكنك أن تشاهد أعمال 10 فنانين وقع عليهم الاختيار لينال أحدهم الجائزة، وذلك في معرض سنويّ هو الثاني في سلسلته، يمثل ثمرة تعاون المتحف مع صانع الساعات السويسري Richard Mille، أراداه احتفاءً بفن معاصر آتٍ من دولة الإمارات ودول الخليج العربي.

"جميل أن يعود الفنانون بالوجودية إلى قيمها المجتمعية"
في هذا العام، تحوم الأعمال الفنية المعروضة حول ثيمة "أيقونة… أيقوني"، إذ اجتهد الفنانون العشرة ليبرزوا، كلّ منهم بطريقته وأسلوبه ومشاعره، كيف يتفاعل مفهوم الأيقونة مع ممارسات الفن المعاصر المختلفة، وكيف يمكن ذلك أن يوسّع الأفق أمام تلاقح وجهات نظر فنية جديدة. في 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، رشّح القيّمون على الجائزة أسماء 10 فنانين هم عفراء الظاهري، أيمن زيداني، دانا عورتاني، إليزابيث دورازيو، منال الضويان، رند عبد الجبار، سيمرين مِهرا أجاروال، شيخة المزروع، فيكرام ديفشا، وزينب الهاشمي، وقد وقع الاختيار عليهم وفقاً لمعايير ثابتة. في منزلها في أبو ظبي، تقول فضة: "نظرت لجنة التحكيم ملياً في سيرة هؤلاء الفنانين وأعمالهم، بحثاً عن التميّز في ابتكار المفهوم وعن الإتقان في التقديم البصري للعمل الفني، إلى جانب الالتفات طبعاً إلى مستوى النضج الفني عند كلّ منهم".
لا تنكر فضة أنّ في الأمر ذائقة شخصية. فهي عملت مع بعض هؤلاء، وشاركوها معارض مختلفة، "وثمة لغة بصرية في أعمالهم تعايشتُ معها وأحبّها، تستحضر فيّ تساؤلات وجدانية، وتساؤلات حضارية، ولهذا نال الفنانون الذين سبق لي التعامل معهم صوتي عندما صار وقت انتقاء المرشحين العشرة". تبرّر ذلك ضاحكةً بالقول إن لها، هي نفسها، اهتمامات فنية عميقة، نابعة من تساؤلها كيف يمكن استحداث لغة بصرية تؤثر في حياتنا أو تضيف إليها شيئاً جميلاً يدوم.


الأيقونة، في مكان ما، لست صورة سطحية بنظر فضة. تقول مستعيدةً في ذهنها أعمال الفنانين العشرة: "الأيقونة هنا هو الشيء الحيّ، وهؤلاء الفنانون ينادون في أعمالهم الفنية بالنظر إلى الفكر الأيقوني في ملابسات ما هو حيّ، أي الرجوع إلى المجتمع والإنسان والتفكير الجمعي، لا التفكير الفردي أو السطحي. إنه تفكّر عميق في ثيمة الأيقونة، فحتى المواد التي استخدموها في أعمالهم تحاكي الطبيعة والأماكن والحكايات، لذا أتى تفكيك الأيقونة أجمل من مجرّد توصيفها".

الفنانون كلّهم طرقوا باب التجريد، من المواد المستخدمة إلى المرادفات البصرية، فتعود فضة إلى أصل التجريد، إلى الوجودية نفسها، إلى التوحّد مع المكان، ومع الذوات، ومع المجتمع، "فالجميل أن يعود الفنانون بهذه الوجودية إلى قيمها المجتمعية، وقد توافقت أفكارهم مع تصوّري مفهوم الأيقونة". لكن، إن كان هذا التوافق ملائماً الآن، فهل حصل أن واجهت اختلافاً بين ذائقتها الشخصية والمعايير التحكيمية الموضوعة؟ "لا أقول إنه اختلاف، إنما هي نظرة إلى الأمور من زاوية مختلفة لا أكثر". وتذكيراً، صوت فضة واحد من خمسة أصوات في اتخاذ القرار، إذ هي ركنٌ في لجنة تحكيم تضم مراد منتظمي، المؤرخ الفني وأمين البحوث في متحف Tate Modern في لندن؛ والشیخ زايد بن سلطان بن خلیفة آل نھیان، رئيس منصة UAE Unlimited وأحد كبار جامعي الأعمال الفنية ورعاة Centre Pompidou وBritish Museum وSharjah Art Foundation؛ وھلا وردة، المهندسة المعمارية في HW Architecture وشريكة جان نوفیل التي قادت مشروع Louvre Abu Dhabi؛ وثريا نجیم، مديرة إدارة المقتنيات الفنية وأمناء المتحف والبحث العلمي في Louvre Abu Dhabi.

الحديث دافئ مع فضة، فمتى كان الكلام عن الفن، تراها على سجيّتها، إذ لا تكتفي بالنظر في أعمال الفنانين وتقييمها، والخوض في معايير القبول بها أو رفضها، فهي من هواة الجمع أيضاً، وعينها تعشق الأشكال والألوان، وعلاقاتها بعدد كبير من الفنانين طويلة ووثيقة. تتذكر: "كنت في العشرين من عمري عندما اقتنيت أول لوحة، وكانت بريشة سنان منصور، دفعت راتبي كلّه ثمناً لها وما زالت معلّقة على جدار في بيت والدتي. أحاول بين الفينة والأخرى أن أقتني لوحات أهواها، عندما أستطيع إلى ذلك سبيلاً ’مالياً‘. فمجموعتي ليست عظيمة، لكنني أحبها". تودّ، شخصياً، أن تقتني إحدى لوحات الفنان الباكستاني المخضرم رشيد آرايين. تقول: "عظيمٌ هذا الرجل، كان المحرّر في مجلة Third Text الفنية، وهو في الوقت نفسه مهندس وفيلسوف، عرض أعماله أخيراً في نيويورك، ولم أستطع زيارة معرضه للأسف". عربياً، تودّ فضة أن تعلّق في منزلها عملاً فنياً للبنانية إيثيل عدنان أو للفلسطينية السورية ساميا حلبي "التي استخدمت الرسم الهندسي في لوحات التجريد وضمّته إلى التشفير الرقمي، علماً أنها في أواخر ثمانينياتها".

"الرقمي ربما يكون كلمة سرّ المستقبل كلّه"
الرقمي؛ ربما تكون هذه كلمة سرّ المستقبل كلّه. ففي سابقة أولى من نوعها في أبو ظبي، يقيم المجمّع الثقافي الذي تديره فضة معرض Life Is A Circus (الحياة سيرك) الفني الجماعي، وهذا أول معرض للرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) هنا، يتيح لزوّاره شراء أعمال فنية عبر الإنترنت لتشجيع الفنانين الرقميين المقيمين في دولة الإمارات على سلوك هذا الدرب الفني المستقبلي. تقول فضة: "هذا المعرض يمنح الزائر فرصة العودة بالزمن إلى أول معرض فني رقمي أقيم في الإمارات في عام 1996 من خلال أعمال الفنان الإماراتي جلال لقمان، وذلك بعرض أخبار وتقارير وحوارات منشورة عن المعرض تظهر كيف تعامل المجتمع الإماراتي مع الفن الرقمي في بداياته، بوصفه فناً مدهشاً فعلاً. ثم ينتقل المعرض إلى الراهن بعمل فني رقمي للقمان يجمع بين الصورة والصوت والحركة، خارجاً على الفن الرقمي التقليدي". يضمّ المعرض أعمال 22 فناناً رقمياً مقيماً في دولة الإمارات، ركّزت أعمالهم على سيطرة منصات التواصل الاجتماعي على حياة الناس.

نعم... حياة الناس. كلمتان مهمتان في قاموس فضة اليومي، الشخصي والفني، فعلى الثقافة أن تكون أسلوب حياة، تماماً كما أتى شعار القمة الثقافية في أبو ظبي التي انعقدت بين 23 و25 تشرين الأول (أكتوبر): "الثقافة أسلوب حياة". تقول فضة: "إنه ليس شعاراً فحسب، وهو يتجاوز فكرة الدفاع عن الحيّ بوصفه مفهوماً فلسفياً للزمن. فالأمر يتعلّق أكثر بالبقاء. قد نتعلّق ببعض الأشياء في هذا العالم، لكن في الوقت نفسه، علينا أن نبقي العين مفتوحة على أهم المظاهر لتلك الأشياء، الملموس منها وغير الملموس، لأنها تؤلف الحياة كما نعرفها. فهذه الحياة هي التي أدافع عنها وأصرّ على حضورها دائماً في أيّ عمل فني، خصوصاً أنني أتحدّر من منطقة يُعرف فيها جيداً معنى غياب الحياة أو إقصاء الأحياء. الأهم بالنسبة إليّ هو المحافظة على الأشياء بحالتها الحيّة".
لا تتخلى فضة عن فعل الإحياء في العمل الفني. أتذكّر كل ما قالته لي، حرفاً حرفاً، حين أجول في تلك الردهة في Louvre Abu Dhabi، وقد خصّصت لهذه الأعمال العشرة.

أغوص عميقاً في Sidelines (على حافة الهامش)، فيغمرني ذلك الشعور بأن منال الضويان منكبةٌ على إلغاء الفوارق بين المجتمعات، واستكشاف طرق جديدة لتصوير الأفراد والجماعات، مدرجة حِرفاً يدوية نسائية في أعمالها، ولا سيما في شبه الجزيرة العربية. فعملها هنا بارز، استوحته من السدو والنقش، أو الحياكة البدوية التقليدية التي انشغلت بها نساء القبائل لكسوة الخيام، أو تطريز أغطية الأرضيات، أو معدات ركوب الخيل. وأمرّ بعمل سيمرين مِهرا أجاروال الفني، والذي يحمل عنواناً Break the Atom and Vegetal Forms After Zeid (انشطار الذرّة والحياة النباتية وفق زيد)، فأجدها قد استلهمت التراكيب التجريدية الضخمة والقوية من أعمال الفنانة فخر النّسا زيد: أيقونات تدور بالناظر في فلك الألوان والضوء والحركة النشطة.

أكمل جولتي بعكس عقارب الزمن، فأقف أمام ما صنعته رند عبد الجبار بالخزف الحجري المزجّج، وعنوانه Earthly Wonders, Celestial Beings (عجائب الأرض، أساطير السماء)، فتردّني بلمح البصر، بأيقونات تنبض حياةً، إلى السرديات التاريخية والثقافية والأثرية، وهي اعتمدت على إنشاء أشكال مستوحاة من القطع الأثرية والهندسة المعمارية والأساطير الشائعة في بلاد ما بين النهرين. إنه الطين الذي ولد منه الإنسان ربما. أما دانا عورتاني، فاستعدتُ أمام عملها الفني Standing by the Ruins (الوقوف على الأطلال) ما لقّنيه امرؤ القيس: "قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِل"، مجسّدةً أشكالاً وتقنياتٍ ومفاهيم وبنى مكانية تربط ثقافتي العربية المتأصلة فيّ بالوعي المعاصر. أحسست أنّ الأيقونة هنا هي "أنا العربي الحيّ"، وعثرت على هويتي الإنسانية الحية أبداً. إنه الشعور نفسه رافقني في كل مرة توقفت عند أحد الأعمال المعروضة، ورأي فضة نفسه يعود إليّ: "جائزة Richard Mille Art Prize 2023 تسلّط الضوء على المستوى الفني الراقي في المنطقة، فهذا المستوى موجود، والعمل الدؤوب موجود، والفنانون موجودون، والجوائز من هذا النوع تَفي العطاء المبذول هنا حقّه".

وهكذا، يختزل الكلام مع فضة أحد معاني الحياة، في وسطٍ يقدّر الحياة والفن تقديراً عالياً. تقول إن المختلف في هذه الجائزة هو انطلاقها من Louvre Abu Dhabi وبروزها ضمن إطار عالمي توفّره Richard Mille. "هذا ينبّه العالم أجمع إلى ماهية الحياة والفنّ عندنا، فيحظى فنانونا بالتقدير العالمي الذي يستحقونه. هذا ما نحتاج إليه حقاً".