حين التقيتها المرّة الأولى في العُلا خلال الربيع الماضي، بدت إيفونا بلازويك، الناقدة والمُحاضرة الفنية البريطانية ورئيسة اللجنة العامة لخبراء الفن في الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، تتدفّق حماسة وهي تستعرض أمامي، بالتفاصيل الدقيقة، المراحل التي أُنجزت من مشروع "وادي الفن" الذي يقترب موعد إطلاقه، وقد يشكّل محطة فنية رئيسية في السعودية في العام المقبل. كانت كلماتها طوال اللقاء تنساب بعذوبة، مثل نبع في واحة، لا سيّما حين تناول الحديث أسباب حبّها العُلا، حيث شرعت تحدّثني بحماسة وإعجاب عمَّا يختزنه هذا المكان من طبقات حضارية متراكمة، تضرب جذورها عميقاً في الثقافات القديمة. والحقّ أنَّ حماسة إيفونا معدية؛ إذ سرعان ما أصِبت أنا بنفسي بعدوى التدقيق في رمال العُلا وصخورها، أتفحَّص شواهد حضارات قديمة عبرت هذه المحطة على طرق البخور والحرير، وجاءت من مختلف أنحاء أفريقيا، ومن فارس وسوريا، وصولاً إلى اليونان وروما، وأقدّر عظمة المكان وروعته. قالت لي آنذاك: "الأعمال الفنية التي نعرضها في "وادي الفن" تمثل صدى تلك الحضارات القديمة العظيمة".

العلاقة بين فنون الشرق والحداثة هي قصة لم تُروَ كاملة في الغرب
لم يتغيّر انطباعي عنها في أيّ لقاء لاحق؛ التفاني نفسه في حبّ العمل، والحماسة. وعندما التقيتها في منزلها الأنيق بلندن الشهر الفائت، وأتينا ثانية على ذكر الشرق وفنونه، كانت قاطعة في التأكيد لي أنَّ العلاقة بين فنون الشرق العربي والحداثة هي "قصة لم تُروَ كاملة في الغرب"، وذلك بالرغم من أنّ العديد من الفنانين الأكثر تميزاً درسوا في مدارسه، وعادوا إلى بلدانهم ليدمجوا حداثةً عالميةً في ثقافتهم الخاصة وفي تقاليدهم الخاصة. أضافت أنَّ هؤلاء نجحوا في إقامة حوار بين الحداثة والتقاليد. ولمّا سألتها عن مكان تتوق للعودة إليه دائماً، لم يفاجئني أن تؤكد أنه العُلا. وهي عبّرت عن فرحها إذ "اكتشفت" حديثاً الفنانة السعودية منال الضويان، التي تقول إنّ أعمالها "هي صوت النساء اللاتي لا صوت لهنّ ولا صورة".


أكتب على وقع الأداء الباهر للمنتخبات العربية في مونديال قطر 2022، من المنتخبين المغربي والتونسي إلى المنتخب السعودي، ولا أجد أنّ بيدي حيلة في منع الذاكرة من العودة بي إلى مهرجان "نور الرياض" في نسخته الأولى التي أقيمت في العام الماضي، فشكّل انطلاقه محطة ترمز إلى التفاؤل والثقة بقدرة الرياض على خلق مشهد فني يدعم الإبداع ويحتضن المواهب المحلية والعالمية، ويستحدث فرصاً ملهمة للفنانين السعوديين لتقديم أعمالهم وإبداعاتهم. وكانت نسخة العام الجاري أشدّ إبهاراً، لا سيّما وسط مشاركة أسماء عالمية بارزة في مجال فن الضوء، قدّمت تجارب إبداعية معاصرة وأعمالاً فنية متنوّعة شملت 40 موقعاً في المدينة. أنظر بعين الإعجاب خصوصاً إلى تجهيز Axion (أكسيون) الذي ابتكره كريستوفر باودر، ويبدو للوهلة الأولى جهازاً علمياً عملاقاً لاستكشاف الفضاء، وإلى عملين للفنان الأميركي مارك بريكمان؛ الأول بعنوان The Order of Chaos: Chaos in Order (ترتيب الفوضى: الفوضى المرتبة)، والثاني بعنوان Kaleidoscope (مشكال)، حيث يستكشف فيهما عبثية القيود البشرية والحاجة إلى النظام في عالم طبيعي يبدو فوضوياً.

للفن أيضاً خير ممثل يتصدّر غلاف عددنا هذا الشهر. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من الإنتاج الغزير، ساعد فاريل ويليامز في تغيير مسارَي الموسيقى والموضة، وساعد أخيراً في تحقيق المزج بينهما. وفي حين يمكن وضع المساهمات الموسيقية التي قدّمها في إطار إحصائي دقيق، حيث حصد 13 جائزة Grammy Awards، وترشيحين لجوائز Oscar، فيما صُنِّفت أعماله أربع مرات أعمالاً بارزة في Billboard، إلّا أن إحصاء أعماله المشتركة والإبداعية التي قدّمها خلال 20 سنة عملية أشدّ إرهاقاً. وهو جمع حديثاً فريقاً لإنشاء منصّة جديدة، أسماها Joopiter، ستجد فيها إنتاجه الإبداعي، على أن يتوسّع الموقع لاحقاً ليشمل بيع مجموعات تخصّ منسّقين آخرين. يقول عن المشهد الموسيقي المعاصر: "تستمعون إلى الموسيقى الشعبية الآن، وقد لا تفهمون إلّا عبارتين، أو بيتين شعريين، أو فاصلاً موسيقياً. ثم ينتهي الأمر، تنتهي الأغنية في دقيقتين و30 ثانية". يضيف: "هناك أغانٍ عبقرية كثيرة لم نسمع، أنت وأنا، بها قط ولن نسمع بها أبداً، والسبب أن الاحتمالات والحسابات لم تصبّ في صالحها في ذلك الوقت، في ذلك المكان. هذا ليس تواضعاً، إنما علم رياضيات".

ويبقى الفن حاضراً في صفحات أخرى كثيرة أيضاً في العدد. فما كان وارداً أبداً أن تكتفي برو ليث وزوجها جون بلايفير بلون واحد حين شيّدا منزل أحلامهما في مقاطعة غلوسترشاير. وكانت النتيجة أن نقف أمام عدد كبير من ألوان رائجة وقد طُلِيت بها جدران المنزل وأرضه. يعكس هذا المنزل نظرة ليث الاستشرافية الإيجابية. تقول: "أعتقد أنّ على الأشخاص ارتداء الأصفر شتاءً". يتشارك الزوجان الكثير، لكنّ إنجاز المنزل شهد تجاذبات ممتعة بينهما. يعكس بعض الغرف ما تحبّذه ليث، فيما تعبّر غرف أخرى عمّا يفضّله بلايفير – بما فيها غرفة نومه. لكن أجمل ما فيه "تحفه" القديمة. تروي ليث: "يحلو لجون أن يقول للملمّين بالتحف القديمة إنها عتيقة، ولا بدّ من أنها استضافت عدداً كبيراً من مآدب العشاء التاريخية"، قبل أن تردف: "لكنه في الواقع اشتراها بسعر زهيد جداً من حانة قديمة، ودهنها بطبقات عدة من طلاء التلميع".

الوليمة اختصاص ليلى جوهر، التي أمضت جزءاً كبيراً من حياتها في إقامة حفلات عشاء، لأصدقائها ولأفراد عائلتها في أوقات فراغها، أو ضمن العمل الذي تؤدّيه. كانت الجائحة صعبة جداً عليها، لكن "مع تخفيف القيود، بدأت أحلم بإعادة جمع مَن أحبّهم حول مائدة العشاء"، كما تقول. وتروي أنها ذات يوم، في أثناء الجائحة، قالت لنفسها: "ماذا لو وضعت طاولة على الرصيف، ودعوت بعض الأصدقاء إلى تناول عشاءٍ في الشارع؟". أنقذتها حفلات عشاء الرصيف تلك، وأصبحت تلك المائدة شعاعاً صغيراً من الضوء. تقول: "أن تضع مائدة على الرصيف لا يتطلّب جهداً كبيراً. أوّل ما ينبغي التفكير فيه هو الجيران. وفي حالتي، رحّب جيراني بالخطوة".