"يفتنني دائماً عمل الدخلاء، وربما يُردّ ذلك إلى أنني، بوصفي مبدعاً أنتمي إلى الطبقة العاملة من غلاسكو وقد وصلت إلى كلية سنترال سانت مارتنز، شعرت أنني دخيل أيضاً"، كما يقول مصمم الأزياء والفنان كريستوفر كاين. يضيف: "في فن الدخلاء، وهنا أفضّل استخدام توصيف جان دوبوفيه 'فن خام'، ثمة صفاء وصدق. يرى المرء النية الأولية ويكون للأعمال صداها الداخلي".
يتحدث كاين في مساحة دار للعرض يملأها النور، Galerie Gugging المشهورة عالمياً، والتي تحتضنها التلال المشجرة في النمسا السفلى خارج فيينا. دعته مديرة الدار نينا كاتشنيغ لعرض لوحاته الرمزية إلى جانب أعمال فنانين مقيمين في House of Artists، وهو منزل ومحترف دائمان يقيم فيه 14 مبدعاً يعانون صعوبات نفسية.
يمثل هذا المعرض، ويحمل اسم Curated by Christopher Kane (نسّقه كريستوفر كاين)، خطوة جريئة لمصمم وجد في الفن خشبة خلاص له في فترات الإغلاق، حين توقف العمل في قطاع الأزياء تماماً. يقول كاين: "بدا الرسم طبيعياً دائماً، وكنت في صغري أسأل أمي أن تجلس أمامي لأرسمها. وعندما يدير المرء أعمالاً في مجال الأزياء، يُضطر إلى التخلي قليلاً عن شغفه، لكنني حملت فرشاتي وأقلامي مجدداً وعادت ممارسة الرسم ملاذي، وطريقة أحافظ بها على صحتي العقلية".
تعود صداقة كاين وكاتشنيغ إلى عام 2016، حين تم اكتشاف لوحة Woman in a Yellow Dress (امرأة في فستان أصفر) بريشة يوهان هاوزر. ذكّره هذا الفستان بفستان في مجموعته Princess Margaret on Acid (الأميرة مارغريت على الأسيد) لربيع 2011، وحين زار Galerie Gugging وجد توأم روحه. كان فاتحةَ التعاون بينهما معرضٌ لفناني Gugging في متجر كاين في شارع ماونت، خلال معرض Frieze London (فريز لندن) في عام 2016. ثم حصل مزيد من التلاقح بينهما: استخدم كاين زخارف نابضة بالحياة من يوهان كوريك وهاينريش ريزنباور في مجموعته لموسم ما قبل خريف 2017. كما صوّر دليل مجموعته في الموقع في Gugging.


تقول كاتشنيغ: "لم أدرك أن كريستوفر يرسم حتى رأيت الصور التي ينشرها في Instagram. اتصلت به وحدثّته عن المشاركة في معرض مع الفنانين هنا. ثمة صدقٌ في عمله. إنه لا يرسم طلباً للنقود أو سعياً ليكون مشهوراً، إنما يرسم لأنه يجب أن يرسم". إن معرض Curated by Christopher Kane هو الثالث في سلسلة خاصة نظمتها كاتشنيغ، حيث يُدعى المبدعون إلى تنسيق العروض، فيتم اختيار أعمال فناني Gugging من أرشيف شامل موجود في الدار.
هذا المعرض جريء في نطاقه، لكنه حميم في ما يكشفه، كما يحتفي بالحياة. تُبرز أعمال كاين شخصيات شبه مجردة كبيرة الحجم، أطرافها مبتورة ومتصلة بأربطة تمتد خارج قماش اللوحة، فيما تُصنَع الشفاه المتلألئة والتلاعب النسيجي الماهر في الملصقات بورق وطلاء وما تبقى من قماش.
تبدو خطوط الجسد الجذابة والجريئة كأنها رؤى في حلم إنسان مُصاب بالحمى: تحدّق رؤوسٌ صغرى ملونة بألوان الفن الشعبي المشرقة في الناظر إلىى اللوحة بينما تتألق دراسات الشخصيات في طبقات من البريق كأوهام غريبة تتراءى في ملهى ليلي. إنها معلقة إلى جانب عمل وحشي ونابض بالحياة بريشة أرنولد شميت، الذي يعمل في House of Artists منذ عام 1986. وعلى النقيض من هذا كله، يلتقط الترميز الفكري المتكرر في أعمال هاينريش ريزنباور – وجوه ضاحكة والشمس – ابتهاج الخلق والإبداع. يقول كاين: "أرى أن فنه يرمز إلى الحرية والبساطة والسعادة". كذلك، يشمل اختياره رسومات تنتمي إلى شهوانية كارل فوندال. تُجمَع أعمال الفنانين الثمانية المرافقين لكاين في المعرض دولياً، وللعديد منهم أعمال معروضة في متاحف ودور عرض منتشرة في أنحاء العالم.

على مرّ القرون، كثيراً ما ترافق الاهتمام بفن الدخلاء وفن من يعانون اضطرابات نفسية مع اكتشافات علمية في دراسة الصحة العقلية. في القرن التاسع عشر، زار الفنان الفرنسي تيودور جيريكو مستشفى Salpêtrière في باريس (ملجأ للنساء) حين كان يعمل على سلسلته Portraits of the Insane (صور شخصية للمجانين)، والتي رفدت إجراء دراسات في هذا المجال. وفي عشرينيات القرن العشرين، انبهر الفنانون السورياليون بعامل اللاوعي، فتناغموا مع عمل سيغموند فرويد الريادي. وفي السبعينيات، عاد الإبداع ثانية ليثير الافتتان، مصحوباً بتعاظم الاهتمام والتقدير للفن الخام.
يسأل كاين: "يُحكَم على معظم الفن من خلال تقاليد الذائقة الجيدة والسيئة، لكن من يستطيع أن يقول هذا جيد وهذا سيء؟ أو أن هذا ليس فناً لأن الفنانين لم يتلقوا تدريباً رسمياً. أعرف خياطات وخياطين وروائيين أنتجوا روايات هي الأكثر مبيعاً علّموا أنفسهم بأنفسهم، وهؤلاء فنانون كلهم، لكنهم حققوا إنجازاتهم بالسعي وراء رغبتهم الخاصة وبغريزة داخلية".
صار الفن ملاذي، طريقتي في الحفاظ على صحتي العقلية"
كان تعرّف كاتشنيغ على Gugging عرضياً أيضاً. تروي مبتسمة: "جئت إلى هنا أول مرة حين كنت طالبة طبّ نفس أكتب أطروحة في الفن والفصام. قابلت [مؤسس Galerie Gugging] يوهان فيلاتشر، وطلبت منه عملاً على الفور. كان ذلك قبل 25 سنة". في ذلك الوقت، كان House of Artists عيادة سكنية نفسانية تؤوي 20 رجلاً من مختلف الأعمار، بدأ بعضهم عادة الرسم في جلسات العلاج. تلخصت رؤية فيلاتشر (وهو أيضاً نحّات تُجمَع أعماله) في تأسيس ملاذ للفنانين وبناء متحف مخصص للفن الخام. كاتشنيغ، مديرة دار العرض منذ عام 2000، تشرح قائلة: "ليس المقصود هنا أن الفن يشفي الناس أو يقدم لهم علاجاً – فما يعبرون عنه نابع من عالمهم الداخلي – لكنه يرتقي بالأفراد ويزيد من احترامهم ويجذب الاهتمام والدعم من الخارج". استدعى إتمام مجمّع Gugging، بما فيه المتحف ودار العرض وHouse of Artists والمحترف المرافق له، بذل الوقت والجهد، إلى أن أُنجِز أخيراً في عام 2006.

تقول كاتشنيغ: "في البداية، ثارت الشكوك في الجدوى التجارية من دار العرض، لكن سرعان ما أدرك الجميع أن النوايا كانت طيبة وفهموا كيف تذهب الأموال المحصّلة من مبيعات اللوحات إلى الفنانين، وتسدد منها تكاليف المعيشة، كما تساهم في تمويل العمل في Gugging". اليوم، فيما يسعى المجتمع جاهداً لرفع وصمة العار المرتبطة بالصحة العقلية، يتحدد الاهتمام بإجراء المزيد من البحوث والدراسات. ومن حسن الحظ أن تكون Gugging، قرب فيينا، مهد طب النفس الحديث، في الجانب الرائد لمعادلة الجمع الناجح بين المجتمع المحلي والتجارة وريادة الأعمال. إن هذا المشروع مثير للإعجاب إلى درجة أن فيلاتشر مدعو الآن ليكون مستشار المجالس الحكومية في قضايا الثقافة والصحة.
كان كاين واحداً من مبدعين كثيرين دُعُوا إلى Gugging على مدى عقود. زار دايفيد بوي دار العرض في عام 1994. والآن، يزورها جامعو التحف والأكاديميون والشخصيات المرموقة في عالم الفن بناء على موعد مسبق، فيما تتولى الدار تمثيل الفنانين دولياً في المعارض.
لافت أن كاين غير متكبر بخصوص فنه، وتبدو علاقته بدار Gugging وكاتشنيغ منطقية بشكل غريزي. بدأ تنسيق العرض من خلال العمل على نموذج مصغّر معلق في محترفه الخاص في لندن. عززت هذه العملية عمل كاين لصالح العلامة التجارية التي يديرها مع شقيقته وشريكته الإبداعية، تامي. يضحك قائلاً: "أصبحنا الآن أكثر تورطاً في المسائل من أي وقت مضى".
في افتتاح المعرض، اجتمع "أصدقاء" كاين، وبينهم الممثلة لورا كارمايكل، والكاتبة لينا دونهام (كلّفته بتصميم فستان زفافها) وزميله المصمم إردِم مورالي أوغلو، من أجل لقاء خاص مع الفنانين. يبتسم كاين قائلاً: "مدهشٌ أن نتمكن من تسليط الضوء على Gugging. إن أحبّه الناس، فهذا رائع! وإن لم يحبوه؟ فهذا جيد لكم!".