عند تأليف الملحمة الحداثية Ulysses (يوليسيس) التي تتمحور حول يوم واحد في دبلن في عام 1904، رسم جايمس جويس المدينة بحيوية نابضة جداً، حتى أنه ابتكر مساراً أدبياً من خلال ممرّاتها ومنازلها العامة وجسورها وشواطئها، ويستمتع عشاق الرواية باقتفاء أثر ذلك المسار منذ صدورها في عام 1922. لم تكن المكتبة الأثرية ذات الواجهة الزرقاء في "الجانب المشمس" من شارع ديوك التاريخي موجودة آنذاك، لكنها من دون شك حاضرة في خريطة مريدي جويس لأماكن لا بدّ من رؤيتها، لا سيما في هذا العام الذي يصادف الذكرى المئوية الأولى لصدور الرواية.
أُنشئت مكتبة Ulysses Rare Books هنا، في خطوة محنّكة نوعاً ما، بمسعى من إندا كونينغهام، أستاذ المدرسة المتقاعد في منطقة دونيغال، في عام 1988. تقع على بعد خطوات قليلة من ملهى يملكه دايفي بيرن حيث تطلب الشخصية الخيالية ليوبولد بلوم سندويش غورغونزولا وكأساً، وهو مكان يحتشد فيه عشاق الرواية مرتدين ملابس مستلهمة من الحقبة الزمنية لأحداثها من أجل إحياء مسيرتهم التقليدية "Bloomsday" في 16 حزيران (يونيو) تزامناً مع اليوم المذكور في الرواية، وعلى بعد خطوات أيضاً من نزل The Duke الذي تردد إليه جويس وجورج برنارد شو.

تتميز المكتبة بخيمتها الأمامية الكبيرة باللون الأزرق السماوي، ويزدان داخلها بتماثيل نصفية لشعراء البلاد، ورسالة شكر من البيت الأبيض في عهد بيل كلينتون، ورسم كاريكاتوري غريب يتهكّم ببائع الكتب الأثرية النموذجي. أما في ما يتعلق بالكتب، فقد عمد ديفيد وأيسلينغ كونينغهام، اللذان تسلّما إدارة مكتبة والدهما الراحل، إلى البناء على صيت عُرِف به الوالد في الحصول على المؤلفات "الأكثر ندرة" في الآداب الإيرلندية من القرن العشرين، وهي إصدارات أولى خاصة أو محدودة تثير الحماسة، أو طبعات موقّعة أو غير مألوفة من مؤلفات جويس ووايلد وييتس.

يقول ديفيد عن والده: "حين كنّا صغاراً، كانت هذه هوايته. كان يحبّ الآداب الإيرلندية والتاريخ المحلي، وباشر بإعداد فهرس خاص به بعنوان Cathach books، في عام 1969، كي يكسب مالاً كافياً لشراء المزيد من الكتب". وعندما تقاعد من مهنة التعليم، أنشأ مكتبة صغيرة في مركز George’s Street Arcade للتسوق في دبلن قبل أن يستقر هنا بعد عامَين.
ما زالت الآداب الإيرلندية والشِّعر والتاريخ الإيرلنديَّان تمثل محور المكتبة الأساسي، لكن المكتبة حافلة بمؤلفات بيكيت وستوكر، وبقصائد هيني والرسوم التصويرية لهاري كلارك، كما افتتح مالكا المكتبة في الأعوام الأخيرة زاوية آسرة خصّصاها لما يمكن جمعه من كتب الأطفال والميثولوجيا والخرائط.

تستقطب هذه المكتبة هواة جمع دوليين ومؤسسات أكاديمية دولية، ومنتجي أفلام يبحثون عن الموقع الأمثل الذي يجسّد تلك الحقبة الزمنية، وصيادي هدايا، وسيّاحاً فضوليين، وشخصيات محلية ذائعة الصيت، وشخصيات دولية معروفة. براد بيت مرّ من هنا؛ وكذلك جوليا روبرتس "التي تقمّصت الشخصية، مع لهجتها الإيرلندية، حين كانت تصوّر فيلم Michael Collins (مايكل كولنز)"، ودانيال داي - لويس ("أظنه كان يهوى صيد الأسماك")، والراحل أنطوني بوردان الذي ابتاع لابنته طبعة أولى من رواية The Cat and the Devil (الهر والشيطان) من تأليف جايمس جويس.
يمكن أن تتصفح الكتب واقفاً بجانب سيمون روشا أو أحد أفراد عصابة Peaky Blinder"
في هذه الأيام، ممكنٌ جداً أن تجد نفسك، وأنت تتصفح الكتب، واقفاً بجانب مصممة الأزياء سيمون روشا، أو أحد أفراد عصابة Peaky Blinder، أو موسيقي يتصفح كلمات أغانٍ من تأليف فان موريسون، أو شخص عادي يبحث عن منشور سياسي غامض.


لا يبحث الجميع هنا عن آثار أدبية ممتعة من الماضي. فالاقتباسات السينمائية والتلفزيونية أثارت كذلك اهتماماً واسعاً ومتزايداً بطبعات موقّعة أولى لمؤلفات إيرلندية معاصرة ناجحة، ابتداءً بكتاب The Commitments (الالتزامات) لرودي دويل وانتهاءً بكتاب Brooklyn (بروكلين) لكولم تويبين، ويجب ألا ننسى "تأثير بول مسكال" الذي أحدث طفرة كبيرة في الطلبات على كتاب Normal People (أشخاص عاديون).

حتى في نظر المالكَين، لا يزال هناك متّسعٌ للحماسة والتشويق... وإثارة القشعريرة. تقول أيسلينغ: "لن أنسى أبداً عميلاً طلب النظر إلى Book of Kells [الإنجيل المضيء] الذي حُدِّد سعره بمبلغ 75£. كان ذلك في التسعينيات. لم أكن قد أدرجته في الفهرس، فرحت أتصفّحه حين كان ذاك العميل يلقي نظرة على المكان، وتسمّرت في مكاني؛ إذ عرفتُ صاحب التوقيع. كان يتضمن إهداءً من جايمس جويس إلى مايكل هيلي، خال نورا [زوجة جويس]، ولم يكن أحد منا قد اكتشف الأمر من قبل. كانت قيمته نحو 3,500£. حمداً لله أنه لم يقرر شراءه، لأنني لم أكن لأعلم ما يجدر بي أن أفعل!" في نهاية المطاف، بيعَ الكتاب بسعره المستحَق، وبعد سنوات قليلة، أُدرِج في فهرس إحدى المكتبات، وكان سعره قد ارتفع إلى 15,000£.
في الذكرى المئوية الأولى لصدور رواية Ulysses، نشرت المكتبة بمبادرة ذاتية طبعة مغلّفة بالفلين نفدت في غضون 24 ساعة. لكنْ ثمة مزيد من الكنوز التي تختزنها المكتبة لرواية جويس، ومنها طبعة ثانية نشرها جون رودكر في عام 1922 (صدرت في طبعة أولى شهيرة عن منشورات Shakespeare & Company في باريس)، وتبوّأت مركز الصدارة في مسيرة Bloomsday الأخيرة.
سواء أأحببتم هذه التحفة الأدبية أم لم تحبّوها، "فقد شَغَلَت الأساتذة طوال قرن كامل من الزمن"، بحسب ما أوردته جامعة Trinity College التي استضافت منتدى انعقد في أيار (مايو) في دبلن. كما شَغَلَت أيضاً مكتبة نادرة تحمل اسمها.