ذات عصرٍ صافٍ في أقصى شمال جزيرة ليباري، أكبر الجزر الإيولية مساحةً، قامت سوزان كابور من جلستها في ذلك الكرسي البيضوي المصنوع من القش والمعلّق في وسط فناء منزلها. وضعت كتابها جانباً وانتعلت حذاءً بحرياً وخرجت من بوابتها المقوّسة، فاجتازت الطريق لتعبر هضبةً صغيرة من الصخور فتجد نفسها في مياه البحر التيراني اللازوردية.
تقول عن هذا الملاذ الذي تملكه منذ عام 2016: "حين بدأت البحث عن منزل هنا، كان المعيار الأساسي هو أن أخرج من الباب لأجد نفسي في البحر". تنضح كابور أناقةً بسيطة، كما الجزيرة تماماً. فالزوجة السابقة للفنان أنيش كابور المولودة في ألمانيا، وهي أمٌّ لولدَين هما ألبا وإيشان، تسير بخفّة شديدة كأنّها تتزحلق على الأرض، وقد لمّت شعرها الكستنائي الطويل في ربطة غير محكمة عند مستوى عنقها. تتحدث بلكنة خفيفة وتتميّز بصوتها المنخفض والناعم والدافئ.
![]() |
![]() |
يتلاءم الأسلوب الجمالي المبسّط الذي تعتمده كابور جيداً مع الأرخبيل البركاني الهادئ المطل على جزيرتَي سترومبولي وباناريا، قبالة ساحل صقلية الشمالي. يربض منزلها بخفرٍ عند الواجهة البحرية في شارع طويل في أسفل طريق متعرج شديد الانحدار. لا شيء مهيباً في هذا المشهد سوى المناظر الساحلية الرائعة التي تبدو من الجهة اليسرى من فنائها، المطلة على جزيرة سالينا الخضراء الكثيفة الأشجار. كما تحيط البراكين بمنزلها.
في الشارع حيث تقيم مقهى ومطعم، لكنّه مفعم بالأجواء الودّية، وكابور مولعة جداً بجيرانها. تقول: "يعيش الصياد ناندو وزوجته غرازييلا على بعد ثلاثة منازل من هنا، إضافة إلى جارتي الأخرى روزا. قرعوا بابنا في أول ليلة انتقلت فيها إلى المنزل مع ولدَيّ، وأعدّوا لنا عشاءً لذيذاً".
"أردتُ استعادة نفسي بتصميم هذا المنزل"
اكتفت كابور من عيش حياةٍ كانت فيها محور الحدث. في زواجها من فنانٍ ذائع الصيت عالمياً (تطلقت من أنيش في عام 2013)، كانت الزوجة الأشدّ انفتاحاً على الآخرين والأكثر احتكاكاً بالناس، تملك منزلاً في لندن وآخر في جزيرة هاربور التي تقصدها النخبة الإجتماعية في جزر الباهاماس لتمضية العطلة. أما هذا المنزل الواقع في جزيرة مختلفة جداً فيجسّد ابتعاداً واضحاً عن المرحلة السابقة. تقول عن قرارها شراء منزل صيفي هنا: "كان زواجي من فنان مشهور في التسعينيات أشبه بمرحلة صاخبة جداً، وكأنني متزوجة من نجم روك أند رول. بعد انفصالنا، أدركت أنني لا أحتاج إلى ’أشياء‘ كثيرة. أردتُ أن أعيش حياة هادئةً هانئة"، مضيفةً: "بنيت منزلي العائلي الخاص، حيث أفرح بتمضية وقتي بمفردي، وحيث يمكن أن يأتي ولداي معي، وأن يصحبا أصدقاءهما أيضاً". إنهما الآن في عشرينياتهما، ولديهما توقعاتهما الخاصة. تتابع كابور: "إنه منزل مختلف وأكثر استقلالاً حيث يمكنهما قضاء العطلة. يحلو لهما القدوم إلى هنا في آب (أغسطس)، حين يكون الطقس حاراً جداً بالنسبة إلي!".
يعبّر المنزل عن أذواق كابور الشخصية وعن استقلاليتها بعد انفصالها عن زوجها. تعلّق: "أردتُ استعادة نفسي بتصميم هذا المنزل. كنت زوجة وأمّاً وقتاً طويلاً، وفي هذه الحالة، غالباً ما نُهمل جزءاً من أنفسنا، وهذا ما حدث معي طوال 20 عاماً. بالرغم من أن الانفصال مؤلمٌ جداً، ومن أن فكرة الحصول على منزل للعطلة بدت مهمة شاقّة في البداية، تطوّر الأمر على نحوٍ جميل أتاح لي تكوين نظرتي إلى العالم من جديد. لم يكن عليّ أن أشاور أحداً أو أن أخالفه في الرأي، واكتشفت أن ذلك مصدر تحرّر كبير، وقد فاجأني هذا الاكتشاف قليلاً".

يوفّر المنزل ملاذاً منعشاً من الصيف الشديد القيظ في صقلية. حين عثرت عليه كابور في عام 2016، كان مهجوراً منذ سنوات طويلة بعدما أقامت فيه عائلات مختلفة سابقاً. تروي: "كان مظلماً وفيه الكثير من السلالم الملتوية، ومقسّماً إلى غرف صغيرة. كنت أبحث عن مساحة مفتوحة غير مكتظّة بالأغراض والتفاصيل". عملت مع المعماري والمهندس المحلي إيمانويل كارنيفال لتحقيق رؤيتها. تقول عن طموحها: "أردت أن يكون المنزل انسيابياً، من دون تفاصيل قاسية ولا زوايا مظلمة. أردت أن أفتح الأبواب فينقشع المنظر أمامي حتى البحر. رغبت في تصميم أروقة تُشعّ بالضوء".
يتألف المنزل الآن من طابقَين، مع فناء يتوسّط غرف النوم في الطابق الأرضي الذي يتضمّن سريراً قابلاً للطيّ يُستخدَم للتمدّد تحت أشعّة الشمس، وأصائص ضخمة من زهور فرانجيباني الشبيهة بالمنحوتات في زوايا المكان. تقول كابور: "تذكّرني بالهند التي زرتها مرات عدّة، وأشعر بارتباط قويّ بها". تقود سلالم بيضاء إلى شرفة على سطح المنزل.
التصميم الداخلي في الطابق الأرضي مفتوح، في حين أن السقف سميك ومصنوع بالخيزران المحبوك في خطوط مائلة باللون الذهبي الفاتح، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء بأقواس بسيطة. تُوجّه الأقواس المستوحاة من فن العمارة المتوسطي التقليدي الأنظار نحو قاعة طعام ومطبخ مصنوع بالفولاذ المقاوم للصدأ في الوسط وطاولة من تصميم جيو بونتي مجلّلة بغطاءٍ للمائدة مطرّز بأسلوب الخداع البصري للمصممة الفنانة الفرنسية ساره إسبوت، وتحيط بها كراسٍ من تصميم فيتوريو نوبيلي. ويقتصر الأثاث في مساحات المنزل على الحدّ الأدنى.

تقول كابور: "في الواقع، وجدت صعوبة في تأثيث المنزل لأنني لم أرد أن يؤثّر ذلك كثيراً في البساطة التي أضفيناها على المكان". لذا، أُضيف الأثاث إلى المنزل تدريجاً. تتابع: "أردت أن تكون جميع قطع الأثاث مزوّدة بقوائم كي يمكن رؤية الأرض تحتها. أردت الحفاظ على طابع من الخفّة، وكأنّ الأشياء تطوف في أرجاء المكان".
خفّة الملمس هذه معزّزة بطابع مرهف تتميّز به قطع الأثاث. في قلب المساحة، يُستخدَم سريران منفردان مصنوعان محلياً ككنبتَين ترتكزان على قوائم حديدية تصميمها بسيط. وفي غرفة نومها أيضاً مناضد جانبية لكلّ منها ثلاث قوائم من تصميم آشلي هيكس، وضعت كابور عليها مصابيح طاولات نحتية من تصميم نوغوتشي ذات مرتكزات معدنية طويلة ورفيعة، وقبالتها خزانة مصنوعة بخشب الماهوغاني تعود إلى منتصف القرن العشرين، لون أبوابها بيج وهي من توقيع أندريه سورناي، وتستند أيضاً إلى قائمتين. وفي غرفة النوم المجاورة خزانة خشبية مضلّعة من تصميم شارلوت بِرّيان.

لا أعمال فنيّة معلّقة في هذا المنزل ذي الجدران البيضاء. بدلاً من ذلك، كلّفت كابور الفنانة تاركا كينغز إنشاء عمل فنيّ يوضع على الأرض. يمتدّ البلاط المرسوم بألوان شمعية والمصمّم خصيصاً للمكان في أرجاء المنزل في تصميم بمثمنات متتالية كبيرة الحجم بالأسود والزهري والأخضر والأزرق الفاتح. يبدو هذا النمط استجابة للقرب من البراكين، وهو يساعد على ترسيم المساحة حيث وُضِعت قطع البلاط. تنبسط سجّادة فنيّة تبثّ انطباعاً أنثوياً في مختلف أرجاء المنزل حيث توجّه خمس قطع بلاط زهرية في تصميم بمثمنات متتالية النظر نحو المحيط، مسلّطةً الضوء على المياه المحيطة بالمكان، وعلى الأفق البركاني البعيد.
تقول كابور عن هذا البلاط المصمّم خصّيصاً لمنزلها: "نراه في مختلف أنحاء المتوسط، وأنا أردتُ شيئاً خاصاً، أشعر بارتباط به"، مضيفةً: "أردت أن تكون الأرضيّة عملاً فنياً ثنائي البعد. ما أحبّه في الفن التجريديّ هو ابتعاده عن العقلانية؛ لا يمكنك أن تنظر إلى لوحة بريشة روثكو من دون أن تتساءل عن معناها".

نشأت سوزان كابور في قرية في بلاك فورست قرب بادن-بادن؛ وهي بكرُ ثلاثة أولاد. تقول: "كنت دائمة الاهتمام بالفنون والتاريخ. في صغري، كانت الأساطير اليونانية قراءاتي المفضّلة: Iliad (الإلياذة) لهوميروس، والروايات الخيالية. لطالما كانت الأساطير تدغدغ فكري".
كابور قارئة نهمة تنصح جميع زوّارها بقراءة Sicily (صقلية) بقلم جون يوليوس نورويتش وThe Day of the Owl (يوم البومة) بقلم ليوناردو سياسكيا. تتردّد بانتظام إلى متحف الجزيرة الأثري، وغالباً ما تصطحب أصدقاءها وزوّارها لرؤية الحمامات القديمة. درست تاريخ الفنون والفلسفة والأدب الألماني في الجامعة في كولونيا. تعرّفت إلى أنيش كابور في عام 1991، وهو العام نفسه الذي فاز فيه بجائزة Turner. تروي عن انخراطها لاحقاً في عالم الفنون: "كانت مرحلة حافلة حيث كان فنانون موهوبون بكل ما للكلمة من معنى يقيمون في المدينة ويعملون فيها، ومنهم جيرارد ريختر وسيغمار بولك وكيبنبرغر. ليست كولونيا مدينة كبيرة، وكنا جميعنا منغمسين فيها". انتقلت إلى لندن للإقامة مع كابور وللدراسة في جامعة SOAS اللندنية في إطار برنامج Erasmus للتبادل. وتزوّجا في عام 1995.
"يروقني أن الوصول إلى الجزيرة ليس سهلاً. لحظة وصولي أشعر بالاسترخاء"
في ليباري، عادت كابور إلى عناصر الحياة القروية التي لوّنت أولى مراحل طفولتها. العبّارة هي وسيلة النقل الوحيدة للوصول إلى الجزيرة. عند الترجّل على اليابسة، يستقبلك باعة محليون يبيعون كرزاً وتيناً وضعوها في الجزء الخلفي من شاحناتهم. تقول كابور عن العزلة النسبية للمنزل: "يروقني أن الوصول إلى الجزيرة ليس سهلاً. لحظة وصولي من لندن بعد رحلة تستغرق تسع ساعات، أشعر بالاسترخاء. أبتاع الخضروات في ساحة البلدة، وأستأجر سيارة صغيرة، وبعد 10 دقائق أفتح باب منزلي".
ليست كابور ممن يستهويهم المشي في الصباح الباكر، بل تفضّل تمضية أيام طويلة ممتعة مع ولدَيها أو مع الأصدقاء على متن قارب ناندو. تقول: "إنه خبير بالأمور المحلية، ويعرف كل زاوية في الجزيرة: يصطحبنا إلى مغاور بحرية رائعة وإلى أفضل الخلجان للسباحة، والتي لا يعرفها سوى السكان المحليّين. يُضاف إلى ذلك أنه طاهٍ ماهر يُعدّ أفضل طبق سباغيتي فونغول تذوّقته في حياتي".

في ليباري، يبدو لك الزمن أزلياً لا حدود له، حيث تمضي أيامك بوتيرة بطيئة تحت أشعة الشمس، تمارس السباحة أو القراءة أو تشاهد سمك أبي سيف يقفز في المياه، أو تصغي إلى أصوات الصيادين يتبادلون التحيّات فيما تنطلق قواربهم من الميناء في ساعات المساء الأولى بحثاً عن صيد وفير. تقول كابور: "من الأمور المفضّلة عندي، والتي أحبّ القيام بها في نهاية يومٍ حار ورائع في البحر، دخول الميناء في ساعات المساء الأولى والتوجّه مباشرة إلى مقهى صغير يروقني لأتناول غرانيتا التوت المثلّجة – وهذا طبق خاص بصقلية – والمغطاة بكمية كبيرة من القشدة. صدقاً، هذا أكثر ما أستمتع به".

نجحت كابور في بناء حياة جديدة لها، فكانت قصة نجاح بعد الطلاق. تقول: "أعتقد أن هذا المنزل يعني لي الكثير لأنه نُفِّذ وفقاً لشروطي الخاصة. أقصده ساعة أشاء، وأحبّ أن أطهو وأمنح الآخرين مساحة للترفيه هنا، لكنني أحبّ أيضاً البقاء بمفردي، وبما أنني في قرية، لا أشعر أبداً بالعزلة".
حين بدأت كابور بتحضير طبق بارميجيانا الباذنجان للعشاء، تعطّل الفرن. لم تتذمّر على الإطلاق، إنما أعادت المكوّنات إلى الثلاجة وسارت خمس دقائق بمحاذاة الجدار البحري إلى المطعم المحلي Al Tramonto الذي تتردد إليه في العادة. استقبلها مالكه دنيس استقبال الأصدقاء. هكذا هي حياتها في ليباري: بلا قيود زمنية، بلا استعجال، إنها حياة حافلةٌ بالجمال.