ما كان جان بروفِه (1901-1984) مهندساً ومعمارياً ومصمماً صناعياً استثنائياً فحسب، بل كان رجلاً استثنائياً أيضاً. بوصفه عضواً في المقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، تخفّى بالاسم المستعار لوكسميث [صانع الأقفال]، وبحسب ابنته كاترين (أصغر أبنائه الخمسة)، نظم خمس طرق للهرب من شقته في نانسي بفرنسا ليتجنب الوقوع في أسر الألمان.
صار بروفِه عمدة المدينة في عام 1944، لكنه غادر منصبه في العام التالي. تشرح كاترين المسألة: "كره فكرة امتهان السياسة". التقينا في ساحة ستانيسلاس ذات البوابات الذهبية في نانسي للحديث عن والدها، الذي كانت أعماله محور معرض كبير نظمته علامة Vitra التجارية السويسرية للتصميم في حزيران (يونيو) المنصرم. أنتجت Vitra نحو 150 نسخة محدودة من كرسيّه Fauteuil Kangourou بمسندي الذراعين (1948) بأزرق ماركول، وهو لون طوره بروفِه خصيصاً لعميل في الخمسينيات، تُبَاع على الإنترنت بسعر 3,610£ منذ 15 حزيران (يونيو)، وكذلك في Vitra Campus في ويل إم راين. وستكشف Vitra Campus أيضاً عن ساحة جديدة هناك، هي "ساحة جان بروفِه"، ضمن احتفالات Art Basel.


في الثانية والثمانين، تبدو كاترين حيوية بفضل هذا الدفء والصراحة اللذين قد أتخيلهما في والدها. نعبر الميدان إلى متحف Museum of Fine Arts في نانسي ومعرض بروفِه الدائم فيه، نتوقف في الداخل عند صورة Ateliers Jean Prouvé، وهو المصنع في ماكسِفيل، خارج المدينة مباشرة، الذي تحول إلى مركز استكشاف لأبيها. تقول: "علّم نفسه بنفسه، وسمّى معاونيه في العمل رفاقاً، فتشارك معهم كل شيء، حتى أفضل أدواته". لكنه لم يكن بالحرص نفسه على تشارك الغنائم مع النازيين. تُضيف كاترين: "أوقف تشغيل كل الآلات في أيام الاحتلال كي لا يتمكنوا من استخدامها؛ وما علموا بهذا الأمر أبداً".
كان مبدعاً يتمتع بضمير اجتماعي"
كان بروفِه مأخوذاً بعصر الآلة، وكان مهندساً يعمل باللحام الكهربائي والمعدن الصفيحي فما انشغل يوماً بـ"التصميم"، إنما بالوظيفية وإتقان استخدام المواد. وكان مبدعاً أيضاً يتمتع بضمير اجتماعي، اعتقدَ أن التقدم في صناعة السيارات والطيران قد يوفر حلولاً للقضايا الاجتماعية. وبوصفه مناصراً للإنتاج الجماعي والمنزل المسبق التصنيع، سعى إلى معالجة أزمة الإسكان بأسعار معقولة والتخفيف من محنة اللاجئين.


توجه كاترين انتباهي إلى صورة بالأبيض والأسود لأحد بيوت بروفِه القابلة للفك والتركيب. صُنِعت هذه البيوت بالخشب والمعدن بطريقة يسهل معها نقلها وتفكيكها بسهولة، فكانت تُشحَن إلى قرى مزقتها القنابل حيث يستطيع شخصان جمع بيت وتركيبه في يوم واحد.
تحيي هذه الصورة ذكرى في بال كاترين. تتذكر: "أرادت أمي الابتعاد إلى بريتاني مع أبنائها كلهم بعد الحرب، لكن لم تعثر على مكان تقيم فيه، فقال أبي: 'لدي بيت للاجئين في المصنع، يمكنك أخذه'. لم يكن لديه وقت لقضاء العطل"، مضيفة: "وُضِعت الألواح كلها على متن قطار وأرسلت إلى بريتاني. ذهبت أمي لاستكشاف المنطقة على دراجتها الهوائية من طراز Jean Prouvé فوجدت مكاناً لنصب البيت فيه صيفاً فحسب، وبُنِي هناك". يبدو الأمر أشبه بعطلة في بيت متنقل. تضحك: "كان الأمر طبيعياً بالنسبة إلينا، لكنه كان جميلاً جداً".



![]() |


كان بروفِه سيد التصنيع المسبق، والجدران المعدنية المتحركة، والألواح القابلة للحمل (ظهرت في مشروعات معمارية رئيسية في أوائل الخمسينيات، بما فيها بيوت Maisons Tropicales المسبقة الصنع في الكونغو صُمِّمت لتُنقَل جواً إلى مناطق نائية من أفريقيا). صنع أيضاً أثاثاً نفعياً بالخشب والمعدن للمدارس والمصانع والمكاتب. وقبل إنشاء مصنعه في عام 1924 تقريباً، صقل مهاراته في ورشته الأولى بصنع قطع لمهندسي الفن الحديث، وتعاون مع معاصرين مثل لو كوربوزييه، وبيار جانِرِه، وشارلوت بيريان. لكنني لا أذكر بيريان أمام كاترين. ما كان والدها مهتماً بحماية حقوقه الفكرية بتسجيل أعماله ضمن براءات اختراع، فلم يعد اسمه موجوداً بصفته مصمماً للعديد من القطع المهمة التي تُعزَى الآن إلى بيريان وحدها.
تعتزم كاترين، وهي واحدة من ثلاث أخوات من آل بروفِه على قيد الحياة (إلى جانب سيمون وفرانسواز)، الحفاظ على إرث والدها. وتحقيقاً لهذه الغاية، سمحت الشقيقات الثلاث أن تعيد Vitra إصدار قطع أثاث أساسية من تصميم بروفِه. أحيت مجموعة Vitra الأولى في عام 2002 كرسي Standard، وكرسيي Antony وCité بمسندي الذراعين، والمصباح Potence، وطاولات Trapèze وEM وGuéridon وGranito. وأعقب ذلك إصدار الراحل فيرجيل أبلوه في عام 2019 "النسخة المقرصنة" البرتقالية البراقة من كرسي Antony بمسندي الذراعين الذي صممه بروفِه في الخمسينيات، وذلك ضمن رؤيته لمنزل عام 2035. في ذلك الوقت، قال أبلوه، الذي كان بروفِه مصدر إلهام كبير له: "أحببت فكرة تقديم بعض كلاسيكيات بروفِه إلى جيل قد لا يعرف أهمية عمله".
العديد من قطع بروفِه الأصلية بين أيدي أمينة في Vitra Campus: يمتلك Vitra Design Museum واحدة من أكبر مجموعات الأثاث الخاصة ببروفِه في العالم (بدأ رئيس Vitra الفخري رولف فيلباوم جمعها في الثمانينيات، قبل أن يخرجه ارتفاع الأسعار من السوق، باعترافه). تُخزَّن هذه القطع في مساحة تشبه القبو إلى جانب كنوز أخرى، من إيمس إلى وغنر وسوتساس. كذلك تتسع أراضي Campus لإحدى محطات وقود بروفِه الأصلية المكسوة بالمعدن (صممها شقيقه المعماري هنري في عام 1953)، حيث نسق أبلوه الموسيقى خلال حفل أُقِيم تكريماً لمثاله الأعلى.
أثّر بروفِه في العديد من المبدعين، بينهم مهندسون معماريون مثل رينزو بيانو؛ كان في هيئة المحلفين التي درست التصاميم المقترحة في Centre Pompidou، وأيّد بقوة خطة بيانو / روجرز الجذرية في عام 1971. لكن من المدهش، نظراً إلى جماليته الوظيفية، أن عالمه الفني هو الذي ناصر مساهمته كمصمم.


اليوم، تُتداوَل قطعه في مقابل مبالغ ضخمة في المزادات (في ذروة "الهوس ببروفِه" في عام 2014، حصّلت طاولته Trapèze التي صمّمها في عام 1956 مبلغ 1,241,300€ خلال مبيع للتصاميم أجرته Artcurial في باريس، فتضاعف تقديرها الأعلى ما قبل البيع وكان 600,000€). إنه رجلٌ يستحق الاحتفاء به لقدرته على الجمع بين مبادئ الفن الدقيقة والتصميم وهندسة العمارة. وكما قال لو كوربوزييه عنه في عام 1954: "أسلوبه بليغ متفرد... فكل ما يلمسه ويتصوره يتخذ على الفور شكلاً بلاستيكياً أنيقاً، مقدماً في الوقت نفسه حلولاً رائعة لمسائل تتصل بالقوة والتصنيع".

في اليوم التالي، قابلت كاترين وابنتها دلفين في Prouvé House بنانسي، المنزل الحداثوي الذي نشأت فيه مع والدها ووالدتها مادلين. إنه اليوم معلم لجذب الزوار في نهاية كل أسبوع بين حزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر)، يجوبونه بصحبة مرشدين وفق مواعيد حجز مسبقة، فثمة مستأجر يشغل البيت ويعتز به كما لو كان منزله الخاص.
بُنِي هذا البيت في عام 1954، فكان مشروعاً شغل تفكير بروفِه عن خسارة مصنعه المحبوب قبل أعوام. فقد اضطر إلى الاستقالة من إدارة الأعمال الفاشلة ليرى شريكته Studal، الشركة الوطنية الفرنسية للألومنيوم، تتولى الإدارة. علق المصمم قائلاً مرة: "أنا توفيت في عام 1952".

"وكأن والدي منحني الإذن لإصدار النسخ"
بيد أن ذكريات كاترين تتعلق بشعور عائلتها، ولا سيما والدتها، بالحماسة للانتقال إلى منزل جديد. تقول عن العقار المضاف إلى تلة شديدة الانحدار تطل على الأفق المديني: "انتظرتْ سنوات لتحصل على بيت؛ كان صعباً العثور على مكان للبناء". تضيف: "كان لأمي سيارة Jeep أميركية، فرُبِطت الألواح كلها خلفه وسُحِبت إلى أعلى التل". كان بيتاً مسبق الصنع بنته العائلة وبعض الأصدقاء خلال صيف واحد (تقول كاترين مبتسمة: "كنت مسؤولة عن ترتيب البراغي")، يحمل ميزات بروفِه كلها، مثل مواده القابلة للنقل الخفيفة الوزن أمكن إنقاذها من مصنعه، بما فيها واجهة من ألواح خامات الألومنيوم ثُبِّتت على جانب واحد من المدخل.
ثمة أصداء هنا أيضا لنادي المطار (صار منزلاً الآن) قرب ميتز، بناه بروفِه مع لو كوربوزييه في عام 1952، وكان سقفه معلقاً يحمي نوافذ زجاجية كبيرة، وكانت عناصر التصميم مستعارة من صناعة الطيران. أطلق لو كوربوزييه على بروفِه وصف "البنّاء الأصلي"، بالرغم من أن الأخير كان يكتفي بوصف نفسه بكلمة بنّاء.
بالرغم من أن لو كوربوزييه اجتمع مرات عديدة مع بروفِه في الشقة العائلية في بلاس دو لا كاريير (إلى جانب شخصيات مثل جوزفين بيكر)، فهو لم يزر منزل بروفِه الواقع على سفح التل يوماً. تقول كاترين: "عمل والدي في باريس في ذلك الوقت، ولم يعد إلا في عطلات نهاية الأسبوع، وبالطبع تعلم لاحقاً في School of Arts and Craft [بين عامي 1958 و1971]". وهي تتذكر الاجتماع بالكاهن في الكنيسة التي صممها لو كوربوزييه في رونشامب (1955)، في أعقاب وفاة لو كوربوزييه، حين كُلِّف بروفِه ببناء برج مستقل بثلاثة أجراس (الكنيسة لا تضم أي أجراس). وما زالت الأجراس تُقرَع في كل يوم. تقول كاترين: "قال الكاهن: ’كلما أسمع هذه الأجراس تدقّ، أفكر في والدك‘".
تتدفق ذكريات مماثلة في ذهنها فيما نجلس في غرفة المعيشة الكبيرة في المنزل بنانسي. ثمة نبتة نخيل في الزاوية، لم تُزرع في حوض بل تخترق الأرض – "ألقينا البذور هناك فنَمَت" – وثمة موقد معدني كبير تتذكر والدها الذي صنعه يدوياً: "صنع البلاط وزخرفه أحد الجيران".
أطلق لو كوربوزييه على بروفِه وصف "البنّاء الأصلي"
تضيف قائلةً إن هذه الغرفة كانت مهمة جداً لبروفِه، "كانت بالنسبة إليه أشبه بساحة القرية: مكان للاجتماع والتحادث. عندما يطلب أحدهم السكينة، يذهب إلى غرفة نومه التي تبلغ مساحتها خمسة أمتار مربعة"، تقول عن تصميم البيت، حيث تسمح غرفة المعيشة بالانتقال إلى ممر فيه غرف نوم شبيهة بالكبائن، فكان لكل طفل غرفته الخاصة إلى جانب من الممر، وغرفة تخزين إلى الجانب الآخر.
تجد كاترين نفسها متحمسة لأن Place Jean Prouvé الجديد من Vitra سيتمتع بالطاقة التشاركية نفسها: "سيكون المكان نفسه: مكاناً لتناول الطعام والتحادث والتلاقي". وسيستمر التعاون بين Vitra وبروفِه في مشروعات أخرى. ستكون هناك لوحة جديدة للمنتجات كلها، بموافقة كاترين؛ وستقدم العلامة التجارية أربعة تصاميم إضافية – عاكس النور Abat-Jour Conique، وكرسيي Tabouret No 307 وTabouret Métallique، وRayonnage Mural، وهذا الأخير نظام رفوف مصمم لصالح Ecole Nationale Professionnelle في ميتز.
"أعتقد أن الأمر رائع. الأثاث الأصلي باهظ الثمن جداً لكن الآن يمكن الناس شراء نسخة بأسعار معقولة نسبياً. وهذا أمر بالغ الأهمية"، تقول كاترين عن المجموعات. "قبل أن يموت والدي، وقع شراكة تتعلق بإصدار أحد كراسيه، وما كنت لأتمكن قط من إطلاق المجموعة لو لم يوقع ذلك العقد. وكأنه منحني الإذن للقيام بذلك. كان ليشعر بسعادة كبيرة".