مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

تصوير فوتوغرافي

من يستطيع كبح جماح دوروثي بوم

مصورة تحفَل حياتها بالأحداث والمحطات كما الصور التي تلتقطها تماماً. وها هي، على عتبة الثامنة والتسعين، تنال التقدير الذي تستحق.

دوروثي بوم في غرفة الطعام في منزلها شمال لندن، تحمل كاميرتها Rolleiflex بين يدَيها © ليديا غولدبلات دوروثي بوم في غرفة الطعام في منزلها شمال لندن، تحمل كاميرتها Rolleiflex بين يدَيها © ليديا غولدبلات

لا أعتقد أن بين المصوّرين مَن كانت انطلاقته شبيهة بانطلاقتي"، تقول دوروثي بوم. تجلس ابنة السبعة والتسعين إلى طاولة دائرية في غرفة الجلوس بمنزلها في هامبستيد، قرب مدافن الكنيسة حيث يرقد [الرسّام الإنكليزي جون] كونستابل، وتستغرق في التفكير. تضيف: "كانت حياتي كثيرة الانشغالات. أترك ورائي تاريخاً فوتوغرافياً؛ 32 بلداً و20 كتاباً و26 عرضاً".

تشمل أعمال بوم التي أنتجتها خلال ثمانية عقود صوراً ساكنة وبورتريهات ومناظر طبيعية وتقارير ووثائقيات اجتماعية، فهي تلتقط ما تصفه بأنه "لحظات شاعرية وغامضة وانتقالية"، أولاً في صور أحادية اللون ثم في صور ملوّنة. بالرغم من إنجازات تجعل من بوم واحدة من أكثر المصوّرين الأحياء غزارةً في الإنتاج في بريطانيا، فهي ليست شخصية معروفة خارج المجتمع الفوتوغرافي. لكن، يبدو أن ذلك سيتغيّر.

تشمل الصور بعدسة بوم الصور Twins (توأمان)، وVilla des Tulipes (فيلا دي توليب)، و18th Arrondissement (الدائرة 18)، باريس، 1995 © أرشيف دوروثي بوم
صورة بعنوان Approach to the Castle (الاقتراب من القلعة)، لشبونة، 1963 © أرشيف دوروثي بوم

شهد أيار (مايو) الماضي افتتاح عرض لأعمال المصوّرة الأميركية فيفيان ماير في صالة عرض MK Gallery في ميلتون كينز، وهو الأول من نوعه في البلاد. خلال الربيع المنصرم، نظّم متحف Brighton Museum معرضاً استعادياً كاملاً لأعمال المصوّرة ماريلين ستافورد المولودة في الولايات المتحدة والبالغة من العمر 96 عاماً، وهو المعرض الأكثر شمولاً لأعمالها حتى تاريخه. ويجري العمل حالياً على تقييم سلسلة من أعمال بوم لإدراجها في صالة العرض National Portrait Gallery قبيل إعادة افتتاحها. في الإجمال، ثمة انطباعٌ ملموس بأن أعمال الفنانات التي كانت محجوبة ولو كانت على مرأى من الجميع، تخرج أخيراً إلى العلن.

ثمة نساء أخريات، مستاءات من إقصائهن إلى هامش المشهد في هذا المجال الذكوري، شكّلن تعاونيات ونظّمن عروضاً (womeninstreet@) وأطلقن مشروعات بحثية (womeninphoto@) مكرّسة لإبراز الغنى العالمي للموهبة النسائية المعاصرة. تقول آن مورين، القيّمة على معرض ماير، إن ما يجري من إعادة تأطير جذرية للنظرة إلى المرأة عملية طال انتظارها، مضيفةً: "تستغرق صانعات الصورة وقتاً لحجز أماكنهنّ في تاريخ التصوير الفوتوغرافي، فالرجال هم من كتبوه. إلا أن هذا التاريخ ليس جامداً، بل ينبض كثيراً بالحياة".

بورتريه ذاتية لبوم حين كانت في الثامنة عشرة © أرشيف دوروثي بوم
Zoo de Vincennes (حديقة الحيوانات في فينسين)، باريس، 1988 © أرشيف دوروثي بوم

تشغل بوم مكانة لافتة في ذلك التاريخ، بغض النظر عن جنسها. وهي تطلّ اليوم، بأناقة لا تشوبها شائبة، في كنزة باللون الليلكي متناسقة مع مقاسها، وخصل شعرها الناصع البياض مصفّفة في مكانها، وعيناها مفعمتان بالعزيمة فيما تروي حكايتها، لذا ندرك تماماً لماذا وصفها مارتن بار بقوله "ومن يستطيع كبح جماح دوروثي بوم". أبصرت دوروثيا إسرائيليت، وهذا اسمها بالولادة، النور في أسرةٍ من اليهود الليتوانيين المندمجين في مجتمعهم؛ كان والدها صناعياً مرموقاً في بلدة كونيغسبرغ في شرق بروسيا سابقاً (صارت الآن مدينة كالينينغراد في روسيا). كان عمرها 14 عاماً حين أركبها والدها قطاراً متّجهاً إلى إنكلترا في حزيران (يونيو) 1939. كانت ألمانيا قد اجتاحت للتو البلدة المرفئية ميمل التي كانت قد تحوّلت موطناً لها ولأسرتها قبل سبعة أعوام. تقول بحدّة: "جئت إلى هذه البلاد بسبب النازيين. وإلا لم أكن لأنجو". كثيرون من زملائها في الصف لم ينجوا.

Petticoat Lane Market (سوق بتيكوت لاين) لندن، ستينيات القرن العشرين © أرشيف دوروثي بوم

في ذلك اليوم المصيري، وقف والدها الذي كان شغوفاً أيضاً بالتصوير، على رصيف المحطة وانتزع كاميرا Leica كانت بحوزته وعلّقها حول عنقها. تروي بوم أنه قال لها: "قد تُفيدك. إنها مسلّية"، مضيفةً: "أعطاني إياها لكنني لم أكن أهتم مطلقاً بالتصوير في البداية. ولم أكن أحبّ حتى أن أتصوّر، أليس ذلك غريباً؟"

فُصِلت بوم عن أسرتها طوال 20 عاماً. أُرسِل عدد كبير من أنسبائها إلى معسكرات العمل في سيبيريا (تقول إن السوفيات، لا النازيين، هم من اقتادوهم إلى هناك)؛ أما هي فوجدت نفسها في مدرسة داخلية في قرية ديتشلينغ الريفية في شرق ساسكس. كانت بداية علاقة حب طويلة الأمد مع ساسكس حيث ابتاعت مزرعة في الستينيات، ومع إنكلترا التي اختارتها وطناً لها. حملت الكاميرا بناءً على اقتراح نسيب والدها، سام، الذي اعتبر أن التصوير قد يؤمّن لها مهنة مجدية مادياً، بعدما نفدت أموال العائلة، ما أرغمها على التخلّي عن طموحها بدراسة الطب.

تقول بوم: "تنبّهَ إلى أنني شديدة الملاحظة بالرغم من أنني طفلة صغيرة". نظّم سام زيارة إلى استديو Baker Street الذي تملكه مصوّرة البورتريهات اللندنية المرموقة جيرمين كانوفا، فتبيّن أنها كانت زيارة مصيرية. تتابع بوم: "كانت ودودة، وكانت أعمالها رائعة. منذ تلك اللحظة، أدركت أنني سأمتهن التصوير".

Jerusalem (القدس) إسرائيل، 1970 © أرشيف دوروثي بوم

في عام 1940، غادرت بوم لندن حين كانت في السادسة عشرة هرباً من الغارات التي شُنَّت على المدينة، ولدراسة التصوير الفوتوغرافي في كلية Manchester College of Technology حيث تعرّفت أيضاً إلى زوجها الراحل لويس، وهو يهودي بولندي فقدَ والدته وشقيقته في الحرب ("كلانا بدأ من العدم"). رُزِقا بابنتَين، مونيكا وإيفون. حين بلغت 18 عاماً، حصلت بوم على وظيفة في استديو تصوير محلي حيث عملت موظفة طباعة، ثم منقّحة صور، وانتهت مصوّرة، وبعد ثلاث سنوات، تمكّنت - بفضل قرض قدره 300£ - من افتتاح Studio Alexander في شارع ماركت ستريت في مانشستر. ساهمت إيراداتها في تمويل دراسة لويس فيما كان يتابع تحصيله العلمي لنيل شهادة الدكتوراه. تقول: "كنت معيلة في سن الحادية والعشرين. وما زلت فخورة بذلك".

تعمل القيّمة الدكتورة فلافيا فريجِري على اختيار الصور التي التقطتها بوم، في إطار مشروع مع National Portrait Gallery يمتد ثلاث سنوات، بدعم من Chanel. هدف المشروع تعزيز حضور النساء بوصفهن فنانات في المجموعة الخاصة بصالة العرض (النسبة الحالية هزيلة عند 12 بالمئة). ترى فريجِري في بوم شخصية مرموقة بين مجموعة من المصوّرات المهاجرات، منهن ليليا جوير وغرتي سايمون اللتان وصلتا إلى بريطانيا في ثلاثينيات القرن العشرين وأطلقتا حقبة جديدة في التصوير: "أنشأت كل منهما استديو خاصاً بها، وأصبحتا سيدتَي أعمال". كانت لحظة مؤاتية، بحسب فريجِري التي تضيف: "أتاحت للمرأة تحقيق استقلالها المالي وإثبات نفسها بجدارة في وقتٍ كان الرسم والنحت لا يزالان إلى حد كبير جزءاً من منظومة يسيطر عليها الرجال".

"رأيتُ الكثير، لكنني لا أُظهر بشاعة الحياة، بل أحاول أن أظهر الجانب الجيد"
 

لكن بوم سلكت مسار النجاح الحقيقي خارج حدود الاستديو وصور البورتريه. فبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تمكنت من السفر، أولاً إلى أسكونا، البلدة السويسرية على ضفاف بحيرة ماجيوري، ثم إلى باريس ونيويورك، وعاشت في المدينتين بعض الوقت مع زوجها في منتصف الخمسينيات، ثم سافرت لاحقاً إلى المكسيك وجنوب أفريقيا وبلدان أخرى. تقول: "تصوير البورتريهات مهمٌّ، لكن حين بدأت ألتقط صوراً للعالم المحيط بي، فُتِحت أمامي نافذة كبيرة".

تُظهر الصور الأولى أوروبا غير المتطورة بعدما دمّرتها الحرب، حيث بقي بريق الإنسانية يشعّ في ظلال المشهد اليومي. يعبث الأولاد بشقاوة في المتنزهات وزوايا الشوارع؛ وتجلس الأمهات على الشرفات وهن يحتضنّ أطفالهن؛ هناك معارض وسيرك، وشعور بعودة الحياة الاجتماعية. لا تلتقط عدسة بوم الصخب اليومي فحسب، إنما تلتقط أيضاً الانفعالات خلفه. كتب رولان بنروز في مقدّمة كتاب بوم الأول A World Observed (مشاهدات من العالم) في عام 1970: "تدرك دوروثي بوم أن كاميرتها لا ترى فحسب، إنما تشعر أيضاً". يمكن النظر إلى عملها في مرحلة ما بعد الحرب بأنه يندرج في إطار جهودها لفهم البيئة التي زُرِعت فيها على نحوٍ دراماتيكي جداً. تعلّق: "يلبّي التصوير حاجتي العميقة إلى منع الأشياء من الاختفاء".

في الستينيات، كانت بوم حاضرة لتشهد بعدستها على التغيير السريع الذي عرفته لندن. فمجموعاتها من الصور التي التقطتها في أسواق الشوارع، والتي تمتلئ بمراهنين يرتدون بزّات رسمية، وببائعي الأكشاك الغارقين في الوحدة، والمتأنقين بملابس مزيّنة باللآلئ والعربات التي تجرّها الخيول، لا تزال تسحر الألباب.

تقول فريجِري: "نعيش في عصر الأنا حيث أصبح الجميع مصوّرين فوتوغرافيين، لكن دوروثي كانت تفعل ذلك قبل 60 عاماً ما يزيد من أهمية هذه الصور"، مضيفةً: "تُبرز الصور التي التقطتها لمدينة لندن المجموعة الكاملة للمشاعر البشرية – أي أحاسيس المتعة والألم". تمتعض بوم من وصفها بأنها مصوِّرة شارع، لكن لا شك في أن هذا التوصيف يعبّر تماماً عن جزء كبير من أعمالها. تشدد: "ما يهمّني هو الأشخاص. هذا هو جوهر الموضوع في رأيي، إنما ليس الأشخاص في الشارع وحدهم. أصوّر لأجل متعة المشاهدة، وما زلت أعيش من خلال ما تراه عينَاي".

تقول بوم إنها أفادت من كونها امرأة عند تصويرها أشخاصاً في أماكن عدة، من لندن إلى الأقصر ومن تل أبيب إلى طوكيو. تقول: "بما أنني امرأة، لم أشكّل تهديداً على الإطلاق. لديّ بالفطرة تعاطف مع الآخرين وفهمٌ للحياة". حين أقيم معرضها الانفرادي الأول في Institute of Contemporary Art في عام 1969، تعارضت الإيجابية المتدفقة في صورها التي حملت عنوان People at Peace (شعبٌ في سلام) على نحوٍ صارخ مع سلسلة الصور التي التقطها دون ماكولين تحت عنوان The Destruction Business (تجارة الدمار) والتي عُرِضت في صالة العرض المحاذية. تقول: "رأيتُ الكثير، لكنني لا أُظهر بشاعة الحياة، بل أحاول أن أظهر الجانب الجيّد".

إن الرواج الذي لقيه المعرض في Institute of Contemporary Art منحَ اندفاعاً قوياً للمهمة التي أخذتها المؤسِّسة سو ديفيس على عاتقها بإنشاء "صالة عرض المصوّر" (The Photographer’s Gallery) في عام 1971، حيث عملت بوم، التي ساعدت في إنشاء صالة العرض، في منصب مساعدة مدير طوال أكثر من 15 عاماً. ساهمت بوم، في هذا الفصل الملهِم من حياتها، في دعم الموهوبين مثل الشاب مارتن بار، وتعرفت إلى مصوّرين كثر من بيل براندت إلى لي ميلر، وكان لها دورٌ في تسليط الأضواء من جديد على أعمالهم. لم يكن الاحتفاء بالنساء المصوّرات على وجه الخصوص سبباً أساسياً لوجود صالة العرض، لكن بوم تدرك تماماً التحولات المجتمعية الجذرية الأوسع التي حدثت.

تقول بوم: "في حياتي الطويلة، رأيت التقدم الهائل الذي حققته النساء. ما أنجزْنَه رائع... أترك ورائي عالماً مختلفاً جداً". لكن أمنية بوم الكبرى، في عالمٍ تُلتقَط فيه مليارات الصور على عجل يومياً، هي أمنيةٌ شاعرية أكثر منها سياسية: هدّئوا من روعكم واستغرقوا الوقت الكافي لرؤية العالم من حولكم. انظروا بأعينكم، لا من خلال هواتفكم.

لشراء المطبوعات الفوتوغرافية الأصلية بعدسة دوروثي بوم والمصنوعة من جيلاتين الفضة بالأسود والأبيض، والمطبوعات الملوّنة الأصلية بعدستها من النوع C، يرجى طلبها عبر البريد الإلكتروني: info@dorothybohm.com

شارك برأيك

0 تعليقات