مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

إبداع ثنائي

زيتون الأندلس يدخل العصر الذهبي

ماذا جرى حين التقى المصرفي الاستثماري بدرو غوميز دي بايزا بالمصمم الفرنسي فيليب ستارك؟ انطلقا في صناعة زيت الزيتون في الأندلس

فيليب ستارك (إلى اليمين) وبدرو غوميز دي بايزا © ألفارو مدينا فيليب ستارك (إلى اليمين) وبدرو غوميز دي بايزا © ألفارو مدينا

حين التقى المصمم الأسطوري فيليب ستارك بالمصرفي الاستثماري الإسباني بدرو غوميز دي بايزا قبل 30 عاماً في مدريد، نشأت بينهما لحمة من خلال ما يتمتعان به من حس دعابة قوي وسريع البديهة. التقيا في افتتاح مشروع أطلقه ستارك لتحويل مسرح قديم متداعٍ إلى مطعم Teatriz الذي يتّسم بديكور دراماتيكي ويقدّم قائمة طعام تجريبية.

يقول غوميز دي بايزا المفعم بالحيوية، الذي بنى صداقة مع ستارك وأمضى لاحقاً العطلة معه في المكسيك: "لم تعرف مدريد مثيلاً له من قبل. فقد ساهم في تحويل هذه المدينة إلى وجهة مقصودة".

يقول الفرنسي البالغ من العمر 73 عاماً، والذي أصبح اسماً ذائع الصيت في ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت فورة في مجال التصميم: "أتذكّر أننا كنا قرب الشاطئ وكانت طيور ضخمة شبيهة بالزواحف المجنّحة تحلّق فوق رؤوسنا. لم نتبادل كلمة جدّية واحدة، لم نتوقّف عن إطلاق النكات السيّئة والجيدة"، مضيفاً: "نحن على تواصل دائم الآن أينما كنّا". يتنوّع إنتاج ستارك الغزير ليشمل كرسي Louis Ghost (Kartell، 2000) مروراً بالدرّاجات الكهربائية وانتهاءً بالديكور الداخلي لليخوت وتصميم فنادق كثيرة حول العالم، إضافةً إلى أدوات منزلية مثل عصارة الليمون Juicy Salif (Alessi، 1988)، وأكسسوارات المكتب وحاملات فراشي الأسنان.

فيليب ستارك (إلى اليمين) وبدرو غوميز دي بايزا في مزرعة زيت الزيتون LA Organic Experience في رُندة، الأندلس © ألفارو مدينا

"في التسعينيات، لم تكن المنتجات العضوية شائعة، لكن ستارك كان مصراً على موقفه"

تتناول هذه المقالة شغفاً آخر، لا بل تعظيم الرجلَين للزيتون. يقول ستارك عن السائل الذهبي الزلق الذي نتناوله بأشكال متنوّعة: "أحب المركز في كل شيء: الأساس، الركيزة في صلب العلاقة بين البشر والعالم"، مضيفاً: "الأوكسجين والملح وزيت الزيتون – إنها ركائز الحضارة. كان الملح والزيت وسيلتين للحفاظ على الطعام وبالتالي للبقاء، ولهذا يتّصف زيت الزيتون بنبلٍ شديد".

زيت زيتون بكر ممتاز LA Organic Oro، عبوة سعة 250 مل بسعر 7.90€

أمَّا غوميز دي بايزا الذي كان يعيش ويعمل آنذاك في نيويورك، فقد عشق الأندلس واستثمر في مشروع بستان الزيتون ومعصرة الزيت LA Amarilla الذي يعود إلى 200 عام قرب بلدة رُندة التاريخية الواقعة على قمة جبل والتي يخترقها وادٍ يقسمها شطرَين. كانت جماعة صغيرة من الراهبات المعزولات عن العالم الخارجي تدير عملية القطاف وإنتاج كميات صغيرة من الزيت في LA Amarilla. ولمس غوميز دي بايزا فرصةً لصناعة علامة تجارية من زيت الزيتون الفاخر وإنشاء موقع للسياحة الزراعية يدعم جودة زيت الزيتون الإسباني وتقاليده. تحدّث مع ستارك عارِضاً عليه أن يكون مساهماً ورئيس مجلس إدارة ومديراً فنياً في المشروع الوليد. يقول غوميز دي بايزا الذي يرأس مصرف GBS Finance الاستثماري الذي أنشئ في عام 1991: "عرضت عليه هذه المناصب لأنني لم أكن قادراً على تسديد أتعابه!". وافق المصمم فوراً على العرض، مشترطاً استخراج زيت الزيتون بوسائل الزراعة العضوية الخالية من المبيدات.

 

منحوتة لستارك مستوحاة من تصميم LA Almazara by Starck، وهو نصب ومتحف في رُندة يُتوقَّع إنجازهما في عام 2023 © ألفارو مدينا

يقول غوميز دي بايزا: "في التسعينيات، لم يكن أحد قد سمع فعلياً بالمنتجات العضوية. كان ستارك مصرّاً على موقفه، حتى لو أدّى ذلك في نهاية المطاف إلى إنتاج زيت أغلى ثمناً". وبدلاً من إطلاق اسم "عقاري" أو عائلي تقليدي على العلامة التجارية، اقترح ستارك اسم LA Organic، وابتكر القارورة المعدنية المميّزة والقنينة المصنوعة من الزجاج الداكن المقاوم للأشعة فوق البنفسجية مع الزخرفة برسوم غرافيكية غامقة اللون. نال زيت الزيتون هذا جوائز عدّة، ولا شك في أن منظره جميل على المائدة. يأتي منتج Oro في الصدارة في هذا المجال، إذ يباع الزيت في قنينة مصممة بشكل محبرة.

زيت زيتون بكر ممتاز LA Organic Original، عبوة سعة 500 مل بسعر 7.95€

حالياً، يُنتَج 100 ألف ليتر من زيت الزيتون LA Organic سنوياً في LA Amarilla، ويُباع هذا الزيت في 25 بلداً. تجدونه أيضاً ضمن قوائم الطعام الخاصة بركّاب الدرجة الأولى على متن الخطوط الجوية البريطانية وشركة الطيران Iberia. لكن، تبقى منتجات LA Organic ممتازة ومخصصة لفئة معيّنة من المستهلكين. تشمل العلامات التجارية المشابهة لها Castillo de Canena (من الأندلس أيضاً)، وMarqués de Griñón (توليدو)، وDauro (كاتالونيا).

يسعى غوميز دي بايزا جاهداً لدعم الزيت الإسباني. فالاستهلاك العالمي لزيت الزيتون في ازدياد، إذ يُتوقَّع أن تصل قيمته إلى 16.64 مليار دولار بحلول عام 2027، وتُعزى هذه الزيادة الكبيرة إلى الطلب المتزايد على المواد الغذائية الصحية. في حين يظن معظم الناس أن إيطاليا هي المنتِج الأول لزيت الزيتون، يوازي الإنتاج الإسباني نحو نصف كميات زيت الزيتون في العالم، ويُصدَّر على نطاق واسع لتصنيع منتجات مختلطة المنشأ.

تذهب رؤية غوميز دي بايزا وستارك بعيداً. في عام 2019، أطلقت LA Organic جولات سيراً على الأقدام عبر بساتين الزيتون وكروم العنب وحديقة خضار واسعة بمحاذاة الممرات المحاطة بزهور الخزامى وإكليل الجبل وأشجار السرو. يضفي معرض صور فوتوغرافية في الهواء الطلق ومنحوتات معدنية رمزية تحمل توقيع ستارك، طابعاً فنياً على المكان. تشمل الجولة مباني المزرعة ومعاصر الزيتون والمناظر الخلاّبة لوادي رُندة. هذا المعلم الزراعي السياحي الذي يشكّل "الخطوات الأولى" هو تمهيدٌ للحدث الكبير المتمثل في إنشاء نصب ومتحف من تصميم ستارك ويحمل اسم LA Almazara by Starck (مقرر افتتاحه في عام 2023). في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وُضِع حجر الأساس للمبنى، بعدما استغرق التفاوض والحصول على الموافقات اللازمة 20 عاماً.

فيليب ستارك في مزرعة زيت الزيتون LA Organic Experience في الأندلس © ألفارو مدينا

رؤية ستارك للمبنى جريئة، وهي مشتقة من صلب هذا العالم ومن خارجه على السواء. صمّم LA Almazara by Starck بشكل مبنى أسمنتي مستطيل وعملاق مؤلّف من ثلاث طبقات ينبثق من سفح الجبل المنحدر. في إحدى الجهات تصميمٌ ضخم يتخذ شكل قرن ثور يعمل صنّاع غواصات متخصصون على تصنيعه، وفي جهة أخرى عينٌ كبيرة على طريقة رسوم بيكاسو يتصاعد منها الدخان. بطبيعة الحال، تحتل شجرة زيتون عملاقة موقع الصدارة. يتيح المتحف من الداخل جولة غامضة سريالية على سلسلة من المصنوعات اليدوية الكبيرة الحجم الموضوعة في صناديق للكنوز، الهدف منها تسليط الضوء على روح المنطقة وتاريخها. غوستاف دوريه وإرنست همنغواي وأورسون ويلز وراينر ماريا ريلك هم غيضٌ من فيض الفنانين والكتّاب الذين وقعوا تحت تأثير الأجواء الدرامية والساحرة التي تميّزت بها رُندة على مرّ القرون.

يقول ستارك عن الجولة داخل المصنع على طريقة [الشخصية الخيالية] ويلي وونكا: "هناك بورتريه لفرانسيسكو روميرو الذي يُقال إنه اخترع رداء مصارعة الثيران والسيف؛ ومجسّماً خشبياً لأول طائرة صُنِعت في ملقة؛ وعدداً كبيراً من القطع الأخرى غير المتوقّعة"، مضيفاً: "في وسط المبنى، تقع على قمعَين عملاقَين يمرّ الزيت من خلالهما وصولاً إلى أنبوب طويل يختفي داخل خزّان مغلّف بالطين". المحطة النهائية غرفة مع موقدَين حيث يُخبَز الخبز ويُطهى الطعام، وتُقدَّم جميع الأطباق مع أباريق فيها زيت. الأنشطة الفنية والثقافية وتذوّق الطعام ستكون جزءاً من برنامج الجولة المبتكر.

"إنه خارج المقاييس تماماً، على غرار كل الأمور الأخرى في الأندلس"
 

يتابع ستارك الذي أبدى اهتماماً كبيراً بأسطورة المنطقة الدراماتيكية وواقعها، ففيها أبصر بيكاسو النور وظهرت مصارعة الثيران وزيت الزيتون: " LA Almazara by Starck هو مبنى ضخم [مساحته 2,600 متر مكعب وعلوّه 25 متراً] خارج المقاييس تماماً. لكن لا شيء عادياً في الأندلس. تمتد رُندة على جانبَي وادٍ فسيح يخترق البلدة، وتضم أيضاً واحدة من أقدم حلبات مصارعة الثيران في إسبانيا، Plaza de Toros de Ronda".

تزيد كلفة المشروع على 20 مليون يورو، يعمل غوميز دي بايزا على تأمينها من خلال GBS Investments التي هي إحدى أذرع المؤسسة التمويلية GBS Finance. يؤكّد: "تسحر LA Almazara by Starck العقول، وسوف تكون معلَماً مهماً للمنطقة ولإسبانيا"، مضيفاً: "بدأت العمل في مجال زيت الزيتون هاوياً، ثم تعلّمت كل شيء من فريقنا في المزرعة. زراعة الزيتون وقطافه أمران معقّدان ودقيقان ورهنٌ بنوع الزيتون والتربة والمناخ وعمر الشجرة. تؤثّر جميع هذه الجوانب في المذاق. ثم تُتَّخذ قرارات بشأن صنع الزيت من نوع واحد من الزيتون أو من خليط من الأنواع. تنطوي هذه العملية على قدر كبير من ’السحر‘، وعلى متغيّرات كثيرة". أنواع الزيتون الرئيسة التي تُزرَع في العقار وفي 56 بستان زيتون موزَّعة في خمس محافظات لإنتاج مجموعة الزيوت LA Organic هي Arbequina وHojiblanca وPicual وPicudo وPajarera وLechina. وبنمو السياحة الزراعية، يزداد الإعجاب بمختلف أشكال الموارد الطبيعية والزراعية، بما فيها زيت الزيتون ومصايد الأسماك. في هذا السياق، مصانع النبيذ الأندلسية جزءٌ راسخ ومتجذر في مسار الرحلة أو الجولة، وقد أرسى عقار Marqués de Riscal مع الفندق الذي صممه فرانك جيري سابقة في هذا الإطار. ستكون LA Almazara by Starck تحيّة كبرى إلى إسبانيا، ويتّصل بها متجر رائع للهدايا. يختم ستارك: "مسؤوليتي أن يكون الجميع في أفضل حال، أكثر شغفاً وذكاء وإحساساً. أريد أن يعود الناس إلى منازلهم ليعبّروا عن دهشتهم مما رأوه هنا!"

0 تعليقات

شارك برأيك