وصلت ميلانو المرة الأولى حين كنت في التاسعة من عمري، في عام 1956. قبل ذلك، كنت أعيش في مانتوا. انتقل والدي للإقامة في هذا المدينة الإيطالية بداعي العمل، فسكنت أسرتي شقّةً من طابقَين في مقاطعة تيسينيزي. منذ ذلك الوقت، تغيّرت الأمور كثيراً. كان الناس يردّدون: "ميلانو مملّة، فلا شيء جديداً هناك". كانت مدينةً صناعية، إلى أن أقيم فيها "إكسبو 2015"، فشهدت ميلانو نهضة في عيون العالم الخارجي، لكنها كانت دائماً جميلة في نظرنا.
أهوى الحديقة السرّية في متحف Museo Vigna di Leonardo حيث الكرم القديم كان مملوكاً من ليوناردو دافنشي"
اليوم، أقطن قرب حديقة Giardino Valentino Bompiani في قلب هذه المدينة. المتنزهات في ميلانو قليلة، لكنها أشد اخضراراً مما تتخيلون. تحتضن مبانٍ كثيرة حدائقَ سرّية، وأنا أهوى الحديقة السرّية في متحف Museo Vigna di Leonardo، حيث الكرم القديم الذي كان مملوكاً من الفنان ليوناردو دافنشي، وكذلك في مطعم وصالة عرض I Chiostri di San Barnaba. يمكن العثور على عدد كبير من الحدائق المماثلة الأخرى إن جلنا على كنائس ميلانو، وهذه طريقة رائعة أيضاً لاستكشاف المدينة. كنيستا Sant’Eustorgio وSanta Maria delle Grazie مفضّلتان عندي.

كانت ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته نابضة بالفن والتصميم، وتضم ميلانو صالات عرض كثيرة هي خير دليل على ذلك. في البداية، برزت طفرة التصميم – مع ماجيستريتي ومانجياروتي وغاي أولنتي – لِيَليها ظهور مجموعة Memphis Milano للهندسة المعمارية التي أسّسها المصمم إتوري سوتساس. يروقني المعرض الحالي للصور الفوتوغرافية بعدسة سوتساس – التقطها بواسطة كاميرته Leica M6 – في ترينالي ميلانو الذي يقدّم دائماً عروضاً ممتازة. وحين أرغب في مشاهدة أعمال فنية من القرن العشرين، أزور متحف Museo del Novecento، وأنا أيضاً من أشد المعجبين بالمهندس المعماري جيو بونتي، لذا أنصح بزيارة برج بيريلي، وهذا مساحة شاسعة وضخمة، وعليكم حجز موعد لزيارته.

الموضة جوهر هذه المدينة. حين كنت أصغر سناً، اقتصرت الإطلالة النموذجية في ميلانو على تنّورة بيج وسترة زرقاء وحذاء Ferragamo بكعبٍ منخفض. بدأت ارتياد جامعة Bocconi University في أواخر الستينيات، بعدما أمضيت في لندن ردحاً من الزمان، وأذكر أنني عدت من هناك ببزّة مؤلّفة من سروال وسترة طويلة، على الطريقة السائدة في شارع كارنابي. لم يكن يُسمَح للنساء بدخول الجامعة وهن يرتدين السراويل، فصادروا بطاقتي. كان الأمر عبثياً. بعد عام، اندلعت ثورات عام 1968 التي قادها الطلاب، وتغيّر كل شيء.

اليوم، أتسوّق بالطبع في [المتجر والمطعم وصالة العرض التي أملكها] 10 Corso Como – وأختار خصوصاً من علامات Comme des Garçons وMaison Margiela وAlaïa التجارية – وقد أقصد أيضاً فرانكو جاكاسي الذي يملك Vintage Delirium. حين افتتحنا متجرنا، زوّدنا جاكاسي بأزرار رائعة، فالنساء حينها كنّ يعمدن إلى تغيير أزرار ستراتهن. اختلف الأمر الآن، لكن يمكنك بعدُ التوجّه إلى السيد جاكاسي مع سترة من Zara، وابتياع أزرار من متجره، وتغيير الإطلالة بكاملها.
تشتهر جادّة فيا مونتي نابوليوني بمتاجرها الفخمة، لكنك تجد فيها أيضاً أفضل متاجر الحلويات. هناك متجر Sant Ambroeus الذي فتح فرعاً له لاحقاً في نيويورك؛ ومتجر Cova التقليدي جداً الذي يصنع حلوى بانيتوني تحمل بصمته الخاصة؛ وأخيراً فتح Marchesi الذي هو من أقدم متاجر الحلويات في ميلانو، أبوابه في الجادّة. لذلك، المنطقة مثيرة جداً للاهتمام؛ إذ يمكنك أن تتسوّق أو أن تكتفي بالتفرّج فحسب. ثم تجلس في مقهى.

الطعام في ميلانو جيدٌ جداً. يقدّم مطعمي المفضّل، وهو Antica Trattoria della Pesa، أطباقاً تُحضّر وفقاً لتقليد الأطعمة البسيطة، إنما العالية الجودة، مثل طبق cotoletta، وهو عبارة عن شرحات لحم عجل بعظمها، حجمها كبير جداً فترى معظم الرواد يتقاسمونها بين شخصَين. يُزعَم أن هو شي مينه كان يعمل هنا في الثلاثينيات. وفي المناسبات الخاصة، مطعم Giacomo Arengario هو المقصد، مباشرةً أمام كاتدرائية ميلانو.
لمن يبحثون عن مكان يقيمون فيه، لدينا ثلاثة أجنحة في 10 Corso Como، لكنني أرسلهم أيضاً إلى فندق Antica Locanda Solferino الصغير المميز بجوه المنزلي، وإلى فندق Manzoni الذي حافظ على لمساته الأصلية. ولمَن يرغبون في احتساء بعض الشراب، وجهتهم الأمل هي فندق Four Seasons الذي يضم فناءً جميلاً؛ إذ كان هذا المبنى ديراً في الماضي. ولا بأس أن تعرّجوا على هذا المكان بعد تناول الغداء في حديقة فندق Bulgari المدهشة.


ذات يوم، كان سكّان ميلانو يفرّون من ضوضاء المدينة عصر الجمعة ليعودوا إليها صباح الإثنين. أما اليوم، فيمضون وقتاً أطول في المدينة، في صالات العرض والمتاحف الممتعة للنظر. وغالباً ما يسألني بعضهم لماذا أعيش هنا؛ أجيبهم، لأنني عشت دائماً في هذا المكان. ثمة سبب آخر، وهو أن الحياة هنا جميلة جداً. فالناس في انهماك واستعجال، لكن هناك دائماً مكانٌ يمكنك أن تتوقف فيه لتسترخي وتستمتع بهذه الحياة.