مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

أزياء

محمد خوجة: "التراثُ أجمل مكوّنات الأزياء المعاصرة"

مصممٌ ينظر إلى الأشياء بعين أخرى، فيرى فيها رؤية أخرى، ويُلبسها معاني أخرى، فيضع تُراثيه الاجتماعي والثقافي في قالبٍ محكم من تصميمه، ويمنح عملية الإبداع براعةً امتلكها بالحرفة

يعبّر المصمم عن فخره بتراثه السعودي الذي كان مصدر وحي له في تصاميمه يعبّر المصمم عن فخره بتراثه السعودي الذي كان مصدر وحي له في تصاميمه

لا يغتني تراثٌ إلا بتراكم السنين، وبتعاقب الأجيال، فيكون أباً لثقافة تعتزّ بما فيها من قيم وجمال، ويكون مصدر وحي لمن وجدوا في أنفسهم ملكة الابتكار، فأبدعوا وازدادوا زهواً. مصمم الأزياء السعودي محمد خوجة واحد من هؤلاء.

خوجة مرتدياً سروالاً قطنياً أبيض اللون وقميصاً أبيض منسقاً تحت سترة يرتديها هواة ركوب الدراجات النارية بتوقيع Hindamme

وخوجة صاحب علامة Hindamme استلهم تراثه، مبتكراً قمصاناً وسترات بسيطة للجنسين معاً، لكنه، في الوقت ذاته، لا يكف عن ربط كل نموذج يبتكره وينفّذه برمزية خاصة مركبة، وبإشارة إلى تاريخ هذه البقعة من العالم التي فيها نشأ. نماذج وقطع جمعتها مؤسسات مختلفة، مقدرةً أهميتها الثقافية والتاريخية. وكمثال، تُعرَض في Victoria & Albert Museum في لندن "سترة القيادة" التي صمّمها في عام 2018 احتفاءً بقرار السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، لتكون أول نموذج معاصر لسعودي في المتحف. يعلّق خوجة على هذه "السترة"، فيقول: "نشأت بين ثلاث أخوات، وكنت فخوراً جداً عندما بلغني رفع الحظر المفروض على قيادة المرأة السيارة في المملكة، فأردت تصميم سترات يرتديها الرجال والنساء على حد سواء احتفاءً بهذا الحدث. أطلقتها قبل شهر من الموعد الفعلي (لبدء سريان رفع الحظر عن قيادة المرأة)، وأشعر بالامتنان لأن متحفاً مرموقاً جمعها وعرضها".

بعض القطع من Hindamme في محترف خوجة

عينه على لندن، لكنّ قلبه في الرياض. فؤاده معلّقٌ بمنطقة العلا. فهو استوحى من الحضارة النبطية التي مرّت فيها مجموعته الأخيرة، وبعضها معروض في المتحف الوطني بالعاصمة السعودية. يقول: "في العلا إلهام تاريخ وألوان صحراء تلف المدينة، حيث أسّس الأنباط منذ القرن السادس قبل الميلاد مركزاً للتجارة في مدائن صالح، وابتكروا عمراناً حفروه في نتوءات الحجر الرملي هناك. إنها منطقة غنيّة جداً بقصص لا تُصدّق، تستحق أن أتأمل فيها وأن أرويها. وروايتها ألهمتني تصاميم كثيرة، هي بمنزلة حوارات بين حقبٍ وعناصر ثقافية عدة، أدمج بينها جامعاً فيها التاريخ الاجتماعي إلى التاريخ الثقافي، فتبقى على قدمها، ولا يُقال إنها ثقافة معاصرة".

خوجة بسترة أرجوانية من الساتان يرتديها هواة ركوب الدراجات النارية

"أحب فكرة الزواج بين الراقي والعادي، وفكرة الارتقاء بعناصر تبدو أحياناً عادية"

بشعر مصفّف إلى الخلف، بتسريحة يعود عهدها إلى أكثر من عقد (ناجحة بفضل رذاذ ملمع من Kiehl's)، ونظارة شمسية من Prada بعدستين أرجوانيتين، وسروال جلدي من Blk Denim، وقميص حريري معتّق ومزرّر من Hindamme، وسترة سباق جلدية عتيقة الطراز، يبدو خوجة أنيقاً جداً. من المؤكد أن عينه قادرة على التقاط التفاصيل مهما كانت دقيقة، وإلا كيف وفّق بين الملابس اليومية والأزياء الراقية؟ يقول خوجة: "إنهما نوعان من الملابس شهدنا على امتزاجهما معاً بشكل متزايد، وما أزياء Balenciaga التاريخية من Demna Gvasalia إلا مثال حي على ذلك، حيث صار سروال الجينز مكوناً من مكونات الأزياء الراقية. يروقني ذلك فعلاً، فأنا أهوى جمع التناقضات، وأحب فكرة الزواج بين الراقي والعادي، وفكرة الارتقاء بعناصر تبدو أحياناً عادية. إنها مسألة تثير اهتمامي دائماً".

سترة استوحاها خوجة من الخط العربي القديم 

ولد خوجة في الخبر بالمنطقة الشرقية، وعلم نفسه بنفسه: "موقع Youtube علّمني صنع الأنماط والتمييز بين الأشكال وأنواع النسيج، ولم أجد ذلك صعباً. إنها رحلتي الخاصة، وسأستمرّ في التعلم كل يوم. في العادة، أستمتع بشراء قطع قديمة ومحاكاة أشكال قديمة (من الماضي) عندما أبتكر قطعاً جديدة، وفي هذا الأمر، ساعدني الإنترنت كثيراً". عندما بلغ السادسة، انتقلت عائلته إلى هيوستن في تكساس، ثم عاد معها إلى المملكة حين كان في الثالثة عشرة. طلباً للرزق، اضطرت العائلة إلى الانتقال إلى باريس وكان خوجة في سنوات مراهقته، فالتحق بالجامعة الأميركية في باريس، لينال منها في عام 2011 شهادةً في إدارة الأعمال. قرر فوراً العمل في تصميم الأزياء. يقول: "وجدت في الأزياء أبلغ لغةٍ للتعبير عن نفسي، وأظن أنها اللغة التي تتيح لمن يرتدي ثوباً من تصميمي فرصة التفاعل معي، عاطفياً وجسدياً، فيصير الملبس نفسه امتداداً لشخصية الإنسان. لذلك، انجذبت كثيراً إلى هذه الفكرة، وإلى تلك الحرية التي يتوق إليها مصمم الأزياء حين ينكب على الورق، ثم على القماش، ليترجم ما يفكّر فيه".

"هدفي هو المساهمة في إنشاء هوية تصميم سعودية معاصرة جداً"

بدأ خوجة العمل على مفهوم Hindamme بإطلاقه علامته التجارية دولياً في عام 2016. وكلمة "هندام" بالعربية تعني حُسْن القدِّ واعتداله وتنظيم الملابس، فمنها استمد رؤيته لإطلاق عملية تصميم تدمج روح الشرق وعصرية الغرب، وفي فكره تظهير عناصر الثقافة والتراث السعوديين في قالب معاصر، وتصدير جمالياته الثقافية السعودية إلى جمهور عالمي. يقول: "أريد أن أثبت مكانة ثقافتي السعودية والعربية، فأنا لا أرى تمثيلاً كافياً لهما في قطاع الأزياء العالمي. وهدفي هو المساهمة في إنشاء هوية تصميم سعودية معاصرة جداً، تُبرز تفكيري التقدمي من دون طمس أي عنصر من عناصر التراث، ومن دون أن أفك ارتباطي بالماضي. ما نويت العيش والعمل والإنتاج في السعودية، لكنّ شعوراً ما حثني على العودة، فأنا شخص عائلي بطبعي. أكثر ما جذبني كان فكرة المساهمة إبداعياً في هذه الفترة التاريخية التي تمر بها السعودية، حيث يزدهر كل ما هو ثقافي. ما زالت التحديات كثيرة، لكننا بالتأكيد في طريقنا لنكون مركزاً إبداعياً ملهماً، وشرف لي أن أكون جزءاً من هذا النجاح".

من تصاميم خوجة في مجموعته الأخيرة
إنه العلاج بالألوان كما يصف خوجة أحدث مجموعاته

رغبة خوجة في الإبداع دائمة، بدأت معه باكراً جداً، إذ يتذكر في صغره انشغاله برسم الأشكال. لكن، لا نجاح يأتي من دون عقبات. يقول: "كانت العقبة الأصعب في طريقي هي عملية الإنتاج، ولا تزال، لا سيما في أثناء الجائحة. واجهت تأخيراً في التسليم، وكان صعباً جداً أن أعمل عن بُعد، فالتواصل الإنساني المباشر ضروري لحسن التعبير عن المفهوم الذي أراه واضحاً في ذهني، خصوصاً أنني أنتج بعضاً من عملي في الخارج. المهم دائماً وأبداً الحفاظ على الإيجابية والتركيز. أعتقد أنني أشاطر كثيرين المشاعر نفسها، وبودّي دائماً أن أترك إرثاً إيجابياً. تنتابني رغبة فطرية للإبداع وترجمة أفكاري، وهذا يمنحني حقاً شعوراً بالارتياح. فتصميم الأزياء شكل من أشكال العلاج، يحافظ على ارتفاع معنوياتي، ولا يمكنني أبداً أن أعيش من دون ذلك. فأنا شخص واضحٌ دائماً، حيويّ أحياناً، أحب تمكين نفسي والآخرين من حولي، وأبذل قصارى جهدي لأستمتع بكل لحظة، ولأعيش كل لحظة في هذه الحياة، بطريقة بناءة". 

وإذ أتحدث إلى خوجة، يمكنني بالتأكيد أن أشعر بطاقته الإيجابية، وتؤثر فيّ طبيعته الطيبة والمرحة أيضاً، فلا يتعبه العمل ساعات طويلة. يقول: "إن إبداع مجموعة من الملابس يتطلب تفكيراً عميقاً ويستغرق وقتاً طويلاً، لكنني أميل دائماً إلى التصميم في طفرات عشوائية، ونعم، عندما أمرّ بطفرة أبقى مستيقظاً طوال الليل! توليد الأفكار واستيفاء الإلهام ورسم المخططات والانتقال إلى اختيار الرسوم والمواد والأشكال… إنها تجربة ممتعة. أما النوم حتى ساعة متأخرة من النهار فمتعة أخرى تولّد فيّ شعوراً بالذنب. في بعض الأحيان، لا أحصل على القدر الكافي من النوم". 

بثنيات ذهبية وأصباغ نباتية طبيعية لتطريز حرفي على الطراز اليوناني - الروماني القديم، تمثل هذه المجموعات رؤية جذابة إلى هوية الأنباط القدماء المرئية والثقافية، من منظور الموضة

يستلهم خوجة قصصاً يرويها بملابس تصلح هندام لابسها. ومع كل قطبة في Hindamme، يقترب من أضواء العالم. يقول: "أردت دوماً أن أكون صوتاً للسعودية في العالم الواسع، وأن أسرد المزيد من قصص تراثنا من خلال ما أصمّمه، كي أصحّح مفاهيم عنا صبغتنا بها وسائل إعلام اختارت السير وراء السائد في ربطنا بما ليس فينا. في كل رداء أصمّمه، أصرخ بأعلى الصوت... هذا نحن". يستخدم خوجة وسائل التواصل الاجتماعي في معظم الأوقات للتواصل مع المجتمع وللترويج لعمله، وهو يراها منصات تعاني عيوباً كثيرة، لكنها مفيدة أيضاً، ويشعر أنها "جمعت كثراً منا معاً على مستوى العالم وقضت على القوالب النمطية كلها التي أنشأها بعض وسائل الإعلام التقليدية. فبالنسبة إلي أنا السعودي، جذوري مهمة لأنها تعكس هويتي، وأنا أتطلع إلى ماضٍ خاص بي لأستشرف مستقبلاً للعالم أجمع". وثمة سبب آخر، بحسبه، هو تعويض النقص في التمثيل السعودي في عالم الأزياء العالمي.  

 

تمثل مجموعة العلا من Hindamme تفسيراً حديثاً واستعادةً للعلا، المملكة الصحراوية القديمة حاضنة الحضارة النبطية
الأسود والأبيض يؤسسان لتباين قوي في ملابس الرجال والنساء على حد سواء مع إيماءة إلى الماضي

خوجة يُطلق اليوم مجموعة جديدة، تؤكد كما سابقاتها ارتباطه بتراثه. يقول: "بعد غياب فرضته جائحةٌ غيّرت حياتنا، ها هو موسم جديد يتقصّى العلاقات الأكثر عمقاً والأوفر معنىً في الحياة… علاقتنا بعائلاتنا ومجتمعاتنا وبأرضنا الأم. تصوّر هذه المجموعة المرونة والطموح والعرفان في حياتنا اليومية، آثرت فيها اعتماد مقاربة أكثر التصاقاً بما يمكن أن أسميه علاجاً بالألوان، كما اخترت للمرة الأولى الخط العربي والزخارف المشرقية المرسومة باليد، واستخدمت تقنيات لم أعهدْها من قبل، كالرسوم المبطنة والنقوش الدقيقة". إن سألته أخيراً إن كانت هذه طريقته في سدّ أي فجوة بين موضة العالم وثقافته الخاصة، يقول: "إنه الإلهام، من أي مكان أتى، وهو الكفيل بوصل الثقافات وإخراج أجمل ما فيها إلى العلن، فمنا من يرسمه، ومنا من يرتديه، ومنا من يحمله فخراً بين العالمين".

شارك برأيك

0 تعليقات