قلة هم المهندسون المعماريون الأحياء الذين يحظون بالإشادة كما يحظى بها فرانك جيري، الكندي الأميركي الفائز بجائزة Pritzker للهندسة المعمارية، والذي يتردد صدى عمله بعمق شديد إلى درجة أنه أدى شخصيته في حلقة من .The Simpsons إنه سيد الشكل المنحني والمجزأ، نحات يعمل بالقرميد والملاط والسحر، مستحضراً إنجازات جريئة للهندسة المعمارية، فيها من الديناميكية ما يجعلها تبدو كأنها تستعد لاقتلاع نفسها والرقص عبر مدن العالم :من صالةWalt Disney Concert Hall المتمايلة، التي افتُتِحت في لوس أنجليس في عام 2003إلى الامتدادات المتموجة المتراقصة لمؤسسةFondation Louis Vuitton في عام 2014 بباريس، وعمارةDancing House ذات القوائم التي اكتمل بناؤها في براغ في عام .1996 وهو يشدد على الدور الأكيد والخاص لمهنته. يقول من محترفه في لوس أنجليس: "الهندسة المعمارية شكل فني". إنه جاثم على كرسي في مكتبه، والجدار خلفه مغطى بصور مؤطرة لأصدقاء ومتعاونين.


جيري، الدافئ واللماح، مليء بالنظرات الرائعة. يتحدث عن حزنه من السياسة العالمية التي تصبح أشد إبهاماً بفعل تجاربه الخاصة في الحرب العالمية الثانية ("استمعت إلى خطب أدولف هتلر حين كنت طفلاً، وهي مغروسة فيَّ، ويبدو أننا نقع في حفرة الجرذان تلك مرة أخرى"). ويكشف كيف قاده أمله في الجيل الأصغر إلى المشاركة في تأسيس Turnaround Arts: California في عام ،2014 التي تمنح أطفال المدارس تعليماً في مجال الفنون. إنه يستمتع بنزاهتهم: "يخبرون المرء منذ البداية بما يفكرون به. لي حفيدتان، تناديانني نانو وتتحدثان بصراحة". عمره 93 سنة، لكنه يبقى متحمساً لعمله. يضيف: "أتقبل كل شيء يساعد في تحويل أي مدينة إلى بيئة أفضل".
يحتفل جيري بمرحلتين رئيسيتين في هذا العام. الأولى الذكرى السنوية الخامسة والعشرون لمتحف ،Guggenheim Bilbao الصرح العملاق المتلألئ على ضفاف نهر نيرفيون والذي يشهد على تحول الأرض البور الحضرية إلى مقصد ثقافي، والذي كان السبب في اجتراح مصطلح “أثر بلباو”. والثانية المبنيان السكنيان الأولان لجيري في المملكة المتحدة، اللذان يقتربان من الاكتمال في محطة الطاقة في باترسي. إنهما يشكلان أيضاً جزءاً من مشروع تجديد جريء بقيمة تسعة مليارات جنيه إسترليني، يحول موقعاً عقارياً سابقاً بمساحة 42 أكراً إلى منطقة مدينية جديدة ومقصد للتسوق بجوار نهر التايمز.
بالنسبة إلى جيري، يؤلف بُرجاه رسالة حب إلى لندن. يقول: “نضع القلب والروح في المشروع، فهذه مدينة أحبها، ولم أرغب في الفشل". يعترف بشيء من الأسف بأنه لم يتمكن من رؤية المبنيين على أرض الواقع بسبب التعطيل الذي تسببت به الجائحة. مع ذلك، بالنظر إليهما في الموقع، إنهما يعكسان أسلوب جيري بلا شك. يتسع الصرحان المموجان لنحو 308 منازل، بسعر يبدأ من £995,000 وبعضها بنوافذ متقابلة مطلة على شرفات مليئة بالنباتات، وبعضها الآخر بسلالم حلزونية، ولطبقات أخيرة بسعر 5.5 ملايين جنيه إسترليني يملك بعضها مناظر بانورامية للمدينة بزاوية 360 درجة تقريباً، جاهزة للسكن منذ نيسان (أبريل) الماضي.
ليس جيري المهندس المعماري الوحيد هنا. يحيط ببرجيه مبنى سكني فضي متلوٍّ صممه المهندس المعماري البريطاني نورمان فوستر. يُنشئ تصميم فوستر المتعرج سوقاً للبيع بالتجزئة على كل جانب من جانبي المبنى، تحتلها متاجر ومطاعم باهظة. ويشبه جيري ذلك "بشوارع المدن التي أنشأتها المباني المنحنية المبكرة لجون ناش".
"حفيدتاي تناديانني نانو وتتحدثان بصراحة بالغة"
يقف مشروعا جيري وفوستر التطويريان خلف محطة الطاقة التاريخية في باترسي المؤلفة من الطوب الأحمر، والتي بُنِيت في مرحلتين بين عامي 1929 و1955، تتميز بمساحة كهفية في داخلها تكفي لاستيعاب ميدان ترافالغار وكاتدرائية سان بول. وهنا، يتبلور مركز للتسوق، يفتح أبوابه للعملاء في أيلول (سبتمبر) من هذا العام، أرضيته مرصوفة ببلاط وفق أسلوب آر ديكو محفوظ، وأعمدته صناعية محفوظة ضمن الخطة الرئيسية لشركة Battersea Power Station Development Company. كذلك ينتشر 254 منزلاً حول المبنى، سُكِن العديد منها بالفعل. ويخدم حالياً افتتاح محطة مترو الأنفاق الجديدة Battersea Power Station Tube على الخط الشمالي المجتمع الصغير الزاخر في الموقع، والذي سيزداد عدداً مع سكان مباني جيري وفوستر (المرحلة الثالثة من التطوير) وأكثر من ذلك مع استكمال مراحل أخرى، ربما تشمل مزيداً من المباني من تصميم جيري، خلال 10 سنوات مقبلة.

كانت رؤية جيري تتلخص في إنشاء "مبنى للزهور"، وهو جزء مركزي متصل بمحطة الطاقة. يقول جيري: "يجري التفكير في المباني التي أصممها من داخلها إلى الخارج، لا من خارجها إلى الداخل. ثمة بروتوكول متّبع: غرفة نوم واحدة، وغرفتا نوم، وشرفات، وهذا ينشئ التركيب، لكن الواجهة هي ما تعطي المبنى سمته الإنسانيـة. فليس المبنى علبة باهتة بثقوب مفتوحة". ويصرّ المهندس المعماري على أن "إنسانية" مبانيه هي ما يميزها من غيرها. "هذا ما يتردد صداه بين العديد من الناس، واللطيف هو أن المبنى كلما ازداد إنسانيةً، ازداد نجاحاً".
بينما يتحدث جيري، يستدير على كرسيه ويشير إلى صورةThe Charioteer of Delphi . أثار التمثال اليوناني الذي اكتُشِف في Sanctuary of Apollo (ملاذ أبولو) لحظة تجلٍّ لدى جيري قبل أكثر من 50 سنة. "دخلت إلى المتحف في دلفي، وكان هناك ذلك الشيء الجميل الذي جعلني أبكي. فكرت في نفسي، ‘رائع، ثمة شخص عاش قبل آلاف السنين صنع هذا، فجعلني أبكي بالفعل’. هذا هو ما أريد أن أفعله بمبانيّ، وهكذا أريد أن يشعر الناس".
تغذي روح جيري المعدية مزاج محترفه الخاص الذي يجوبه مرتدياً قميصاً قصير الأكمام غير رسمي وسروالاً فضفاضاً، بينما نظارته غير المؤطرة مرفوعة فوق رأسه. المساحة البيضاء البسيطة مؤثثة بأثاث خشبي غير مزخرف. وثمة نماذج هندسية معمارية ورسوم مشبعة بالألوان مكدسة في كل ركن مُتاح. لاحظت سمكة خزفية عملاقة على رأس خزانة في مكتب جيري. الأسماك موضوع افتتان، كثيراً ما استمد منها إلهاماً: يمكنكم أن تروها في البلاط المصنوع من التيتانيوم الشبيه بالحراشف الذي يكسو مبنى متحف Guggenheim في بلباو، وفي مبناهPeix (السمكة) الذهبي بطول52 متراً، بُنِي لدورة الألعاب الأولمبية في عام 1992 على شاطئ برشلونة. يفسر انشغاله قائلاً: "يرقى عمر الأسماك إلى ملايين السنين وتبدو هندسية معمارية، لكن العامل الرئيسي تلخص في ترجمة هذه الحركة إلى مبنى". يقول: "أعتقد أن المتحف في بلباو [شُيِّد بين عامي 1993 و1997] كان المرة الأولى التي أنفذ فيها شكلاً منحنياً ناتجاً عن افتتاني بالأسماك"، ثم يضحك. "ثمة شيء مريب في هذا المبنى"، يقول.
يتماثل مبنيا جيري الجديدان في لندن في تموجهما، لكن مظهرهما الخارجي الأبيض يعني أنهما خضعا للنمذجة التقليلية بشكل مدهش مقارنة ببعض مبانيه الأخرى. يقول جيري إن ذلك كان متعمداً، تجنباً لمنافسة محطة الطاقة. بدلاً من ذلك، صُوِّر برجاه بوصفهما جزءاً من رباعية من المباني المناظرة، يدخل كل منها في حوار مع الآخر. هذا نهج يذكرنا بناطحة السحاب التي بناها، المكونة من 76 طبقة والتي اكتمل تشييدها في نيويورك في عام :2011 كانت مستوحاة من منحنيات القماش وطياته المصورة في منحوتة للفنان جيان لورينزو بيرنيني من القرن السابع عشر، في حين تردد أيضاً صدى التفاصيل الخاصة بمبنى وولوورث المجاور. يقول جيري: "لدي صورة تظهر جسر بروكلين، ومبنانا، ومبنى وولوورث؛ تؤلف معاً مجموعة بالرغم من اختلافها الكبير. بدلاً من أن يكون للجميع مبنى أنويّ كبير، يتعلق الأمر بحوار عمراني مع جيراننا. هذا هو حسن الجوار".
ثمة شجاعة في ما يتصل بما يفعله جيري، وهو يعترف بهذا بسهولة. يضحك قائلاً: "حسناً، نميل إلى الإعجاب بمايكل أنجلو. لم يكن على مايكل أنجلو وبيرنيني أن يكونا شجاعين، كان عليهما أن يكونا فنانين فحسب. رعى مجتمعهما ذلك واحترمه. لكن، بالطبع، على المرء أن يتحلى ببعض الشجاعة ليكون فناناً الآن". إنه لا يرى تمايزاً بين الفن والهندسة المعمارية. "كان الرسامون العظماء في عصر النهضة مهندسين معماريين أيضاً، من جيوتو إلى إل غريكو".
لم يتفق الجميع مع جيري في هذه النقطة، خصوصاً حين انطلق خريجاً من جامعة جنوب كاليفورنيا في أعقاب هجرة عائلته إلى الولايات المتحدة من كندا في عام .1947 "كان المعماريون في مثل سني شديدي الانتقاد لما كنت أحاول القيام به. لكن مجتمع الفنانين في لوس أنجليس احتضنني منذ البداية، لذلك هذه هي الثقافة التي نشأت عليها. لم أنظر إلى المهندسين المعماريين الآخرين، لكن بطبيعة الحال، بعد الحرب، كان المدرسون جميعاً قد زاروا اليابان، وأثار ذلك اهتمامي حقاً، حتى إنني عزفت الموسيقى في أوركسترا يابانية".
"على المرء أن يتحلّى ببعض الشجاعة ليكون فناناً الآن"
يترك حب جيري الموثق جيداً للموسيقى أقدم أثر فيه، وربما أعمق الأثر، فهو يلون العديد من ذكريات طفولته في كندا. "في المدرسة الثانوية، كنت مهتماً بالعلوم والرياضيات، وبالموسيقى أيضاً. كان اسم عائلتي في الأصل غولدبرغ وعشنا في تورونتو، وهناك صنع غلين غولد Bach Goldberg Variations (تنويعات باخ غولدبرغ). أحببت الإصغاء إليها، ولا أزال. كان ذلك جزءاً كبيراً ومهماً من حياتي". إنه مستعد ليصمم بفرح قاعات لحفلات موسيقية.
أدت والدة جيري دوراً رئيسياً في شغفه، سواء في الموسيقى أو الفن. "كان [والداي] فقيرين نوعاً ما، لكن أمي كانت تأخذني إلى الحفلات الموسيقية في Massey Hall . كان إرنست ماكميلان قائد الأوركسترا، وكان يركب دراجته الهوائية عبر المتنزه حيث كنت أمشي قاصداً المدرسة، لذلك كثيراً ما تحدثنا. اصطحبتني كذلك إلى المتحف الذي انتهى بي المطاف إلى إعادة تصميمه وهو Art Gallery of Ontario والذي اكتمل في عام 2008وأصبحت مهتماً بالفن على هذا النحو".
يرجع الفضل أيضاً إلى حد كبير إلى والدة جيري التي يعرفها بأنها معجبة بإنكلترا ومؤيدة للملكية: هذا أحد الأسباب التي تجعل أول مبنيين سكنيين له في لندن قريبين للغاية من قلبه. يقول: "كان لدى والدتي هذا الزعم، لأن أحد أقاربها دُعِي ذات يوم لحضور حفلة شاي نظمتها الملكة الأم، وتصورت أن هذا يعني أنهم كانوا في عداد العائلة المالكة. كانت تحمل حقيبة اليد البيضاء الصغيرة نفسها، وهناك كثير من القصص اللطيفة عن فانتازياتها كونها الملكة الأم وهي تتقدم في السن. لذلك، في ثقافتي وفي حياتي: العائلة المالكة البريطانية تنشد النشيد الوطني. أشعر أنني جزء من ذلك لأنني نشأت معه. إنه جزء من تراثي". التقى مرة ديانا، أميرة ويلز، لكنه لا يزال ينتظر دعوته لشرب الشاي في قصر باكنغهام.
أفضل أعمال جيري
Luma Arles Tower (عام (2021

Walt Disney Concert Hall (عام 2003)

Opus Hong Kong (عام 2012)

Dancing House في براغ (عام 1996)

Guggenheim Museum Bilbao (عام 1997)

Guggenheim Abu Dhabi (عام 2026)

الصور :أدريان-ديويرت و Getty Imagesو Gehry Partners, LLP