في عصر الحدود السائلة، وتغيّر المناخ، والتلوّث البلاستيكي والهجرة الجماعية، عيون العالم شاخصةٌ إلى مياهه. استحوذ هذا الموضوع على حياتنا الثقافية أيضاً، حيث تفيض صالات العرض بالرسوم والصور الفوتوغرافية والتجهيزات الرقمية التي يشكل الماء محورها.
الماء ثيمةٌ دائمةٌ في رسوم أليكس كاتز منذ عقود. فهذا الرسّام الأميركي البالغ من العمر 94 عاماً يعتبره موضوعاً جاذباً بسبب قدرته على التبدّل والتحوّل. يشرح: "الماء في تغيّر مستمر، يستحيل رسمه على نحوٍ مكتمل، لذلك تنجز جزءاً منه اليوم، وتحاول رسم جزء آخر غداً"، مضيفاً: "لن تتمكن أبداً من رسمه بالطريقة الصحيحة. تحاول مرة تلو المرة حتى الإنهاك، فتجرّب أمراً آخر". جُمِعت المناظر البحرية التي رسمها كاتز على مدى 40 عاماً في ماين، في معرض منفرد بعنوان Mondes Flottants/Floating Worlds (عوالم عائمة) في صالة عرض يملكها ثادايوس روباك في باريس في الخريف المنصرم. تتمحور هذه الرسوم حول ثلاثة أجسام مائية تقع على مقربة من المنزل الصغير حيث يقيم كاتز، وهي حوضٌ وجدولٌ وشاطئ بحر، رُسِم بعضها أيضاً في المكسيك وبلجيكا. يقول روباك: "لافت أن نرى كيف كان كاتز يعود في أعماله إلى موضوع المناظر البحرية على مر العقود، ويُعيد تعريفه في كل مرة".

تتَّسم أعمال كاتز التأمّلية بطابع تجريدي قوي، وهي تحوّلت من التسطيحية التي رافقت لوحاته الأولى إلى اعتماد أسلوب أكثر شفافية في رسومه الأخيرة. يتميّز كاتز بصورة خاصة بمقاربته الرائعة للألوان. "اللون منظور وعملي"، يقول الرسّام قبل أن يردف: "إنه مجرد وسيلة لصنع الضوء". يلفت القيّم على المعرض إريك دو شاسي إلى أن الرسوم "تُبيّن أن الأفكار الأعمق تصدر من اللحظات المكثّفة. يمكن أن يُسمّى ذلك تأمّلاً، إنما ليس بالمعنى الديني للكلمة. إنه شيءٌ نشط جداً، ويمكن أن يثير نوعاً من النشاط في الناظر".
يبدو الماء مختلفاً جداً في أعمال الرسّام البريطاني الشاب باتريك إيتش جونز الذي أقام معرضاً منفرداً لدى Frieze Art Fair بالاشتراك مع صالة عرض The Sunday Painter، وعرض أعماله أخيراً لدى Galeriepcp في باريس. في لوحاته الزيتية الطويلة والمستطيلة، يجسّد الفنان أسماكاً في "مياه غاضبة ومُغمّة"، كما يصفها. وهذه الأعمال مستوحاة من علاقة جونز الشخصية بالحزن والأسى. يقول: "أردت أن أستكشف الدورات الذهنية المتكررة والأكثر صعوبة التي نحملها في داخلنا. بدا لي أنه من الملائم استخدام المياه صورةً تشبيهية للحديث عن السطح الخارجي والباطني للنفس البشرية".

يتابع جونز: "كلما كانت الأعمال أقل عدداً وأدكن لوناً، استغرق الناظر وقتاً أطول للتحديق فيها وتحسسها. وهذا هو حال الماء نوعاً ما، فهو يكشف مزيداً من خباياه كلما أطلت جلوسك معه". تبدو رسومه بالحجم الكبير كأنها تطوق الناظر إليها من مختلف الجهات. فالماء هنا موضوعٌ غامض يعبّر عن الحالة الذهنية.
في عصر النهضة، كان الماء رمزاً للنقاء: مثالٌ على ذلك، لوحة بوتيتشيلي التي تسجّد فينوس وهي تخرج من البحر. في القرن التاسع عشر، كان الماء العنصر الأساسي للتعبير عن القوة البحرية أو الفوضى السياسية، كما في لوحة Raft of the Medusa (طوف ميدوزا) بريشة جيريكو، أو مجرد مثال جبّار عن قوة الطبيعة، كما في رسوم البحر الهائج بريشة الرسّام الإنكليزي ترنر. يدين فنانو اليوم بالكثير للصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسة الفنانة الأميركية روني هورن لنهر التايمز لما تتميز به من تعقيدات، وبسبب طبيعتها المؤرِقة بحيث تسكن الفكر ولا تبارحه؛ إذ تترافق هذه الصور مع حكايات الأرواح المفقودة. هناك مثلاً مَن يستلهمون أعمالهم من العلاقة بالمياه ومن تجارة الرق عبر الأطلسي، مثل مشهديات دومينيك وايت المستوحاة من شِباك الصيد، أو من أفلام تُخرجها ألبرتا ويتل. لكن الرسّامة كاليدا راولز المقيمة في لوس أنجليس تبتعد، في لوحاتها الزيتية الشديدة الواقعية، عن تجسيد الصدمة. فمن خلال رسمها أشخاصاً يرتدون في معظم الأحيان أثواباً بيضاء، ويستحمّون في مياه زرقاء صافية، تصوّر الماء نفسه بوصفه مساحةً يستطيع السود أن يحققوا فيها ازدهاراً ونمواً.
تشرح: "أريد أن أذهب أبعد من الصورة التي تُظهرنا في حالة معاناة، أو تصورنا ضحايا لأمرٍ ما حدث في التاريخ"، مضيفة: "أعتقد أننا نمتلك قدرات أكبر؛ فنحن مستنيرون ومطّلعون، ونمضي قدماً فيما صار ذلك التاريخ جزءاً من حمضنا النووي". عند رؤية المستحمّين في رسومها، تخطر في البال أفكار التسامي أو المعمودية. تقول راولز: "هذا أشبه بتطهير الذات من التاريخ، ومن كل ما مررنا به، إنه إظهارٌ لقوّتنا".

ليس الرسّامون وحدهم مَن يجذبهم الماء. فإعادة تكوين الأمواج كانت محورية في مشهدية Starry Beach (شاطئ نجمي) التي أعدتها مجموعة A’strict الكورية، والتي عُرِضت لدى LUX في مبنى 180 The Strand قبل عيد الميلاد الماضي. كانت المشهدية المتعددة الاتجاهات مشابهةً لحركة المد والجزر عند شاطئ البحر، لكنها كانت مصنوعةً من أضواء أحاطت بالناظر في غرفة مرايا اللانهاية. بحسب المجموعة، "أردنا أن نظهر موجة لا يألفها معظم الأشخاص، موجة تتلاطم فوق رؤوسنا. أردنا التعبير عن المشاعر الغامرة التي تجتاحنا حين نجد أنفسنا أمام الطبيعة العظيمة".
لم يقصد الفنان التايواني وو شي تسونغ، في البداية، أن يكون موضوع صوره المطبوعة بتقنية Cyanotype عن الماء. فحين بدأ العمل عليها، كان يفكّر في تجسيد مشاهد الجبال، لكن سرعان ما لاحظ أن مساحاته الزرقاء الفوتوغرافية تشبه أمواجاً هائجة ومضطربة. وفيما كانت مجموعته تكبر وتنمو، شرع في استكشاف طرقٍ كي تحاكي أعماله الرسوم التقليدية بأسلوب تشانشوي الصيني، والمشاهد المحيطية والمناظر الطبيعية. بدأ العمل بواسطة تقنية Cyanotype في عام 2012، مدفوعاً بامتعاضه من سهولة التصوير الفوتوغرافي الرقمي. يقول شي تسونغ: "فكّرت في أن أجرّب الإمكانات التي يُتيحها المزج بين التقنيات والوسائل السابقة، وكنت أتطلع إلى العمل بورق شوان". يعتمد شي تسونغ أسلوب الطباعة المباشرة والتناظرية. فهو يعمل في الهواء الطلق، مستخدماً المواد الكيميائية والأشعة فوق البنفسجية – "أنا أشبه بمزارع"، يقولها ضاحكاً. يمضي ساعتَين في تجعيد ورق Cyanotype التقليدي الخاص به – وهو مزيج من مواد لم تُجرَّب سابقاً – وتعريضه للهواء، ثم يغسل كل ورقة في الماء مدة تصل إلى الساعة، بحسب المؤثّرات التي يرغب في الحصول عليها. يقول شي تسونغ: "إنه أمرٌ حسّي. أقوم بتجعيد الورقة. أتحسسها. حين تختلف درجة الرطوبة، يؤثّر ذلك في الورقة. فإذا كانت أكثر جفافاً، تصير أقسى. وإذا كانت أشد رطوبة، تزداد ليونة. هناك الكثير من الصُّدَف التي لا يمكنني السيطرة عليها. وهذا هو الجزء الأفضل".
النتائج تجريدية لكنها تبدو شبيهة بالمناظر البحرية. يتابع شي تسونغ: "لا يمكنني أن أجزم إذا كان [العمل] ملموساً أم تجريدياً. لا تجسّد المناظر الطبيعية الصينية جبالاً محددة. يرسم الفنان المشهد بحسب تفسيره الخاص له". تصير أعمال شي تسونغ أكبر حجماً، فمعرضه الأخير في صالة عرض Sean Kelly في نيويورك تضمّن عملاً من ثلاث صور يصل ارتفاعها إلى تسعة أمتار. وتعكس الأعمال أيضاً عشق الفنان تسلّق الصخور في تايبي، "حيث أواجه كل يوم جداراً عملاقاً أمامي وموجةً بحرية خلفي". وعلى المنوال نفسه، يسعى الفنان إلى جعل الناظر يغوص في المساحة المعروضة أمامه.

تحوّل البحر أيضاً، بطريقة أقرب إلى الصدفة، إلى محط تركيز للفنانة البريطانية فيونا بانر (المعروفة باسم The Vanity Press)، فمشهديتها الأخيرة هي من نتاج العمل على مشروع نحتي تحوّل لاحقاً إلى تعاون مع منظمة Greenpeace. تشرح بانر التي تمارس جزءاً من عملها في الساحل الجنوبي المطل على القناة الإنكليزية: "رأيت الكثير من رسوم المراكب الكبيرة والسفن الشراعية والحربية". بدأت تجسيد السفن بأسلوبها الخاص، فصنعت "مناظر بحرية وجودية". تقول: "فكّرتُ في ما يعنيه لي ذلك الساحل، باعتباره خطاً فاصلاً، وقناةً، ومجرى مائياً معقّداً. الجانب الأكثر سحراً في البحر هو ما يكتنزه من حضارة غير مرئية".
بالنسبة إلى بانر، بدأ البحر يقدّم صورة عن المستطاع، وكذلك مساحةً للكارثة المناخية. كانت مراكبها الممحوّة، التي تحوّلت إلى علامات وقف عائمة، "مظهراً من مظاهر وجود أزمة"، لكنها شكّلت أيضاً إشارةً إلى قدرة "اللغة [على أن تكون] رسولاً للحقيقة أو المعنى أو المضمون". وتذكّرنا هذه المراكب أيضاً، على نحوٍ ملائم، بأن استخدام الماء في الفن يبقى وسيلة انسيابية سلسة بطريقة رائعة.