مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

مذاقات

جميلتي لشبونة

يقدم نونو مندِز في مطعمه الجديد في لندن مذاقات يتميز بها مسقط رأسه. أجيش باتالاي يستمتع بجولة طاهٍ حصرية في العاصمة البرتغالية

أندريه‭ ‬ماغالهايس‭ ‬ونونو‭ ‬مندِز‭ ‬في ‭ ‬Quiosque São Paulo© ساندا فوكوفيتش أندريه‭ ‬ماغالهايس‭ ‬ونونو‭ ‬مندِز‭ ‬في ‭ ‬Quiosque São Paulo© ساندا فوكوفيتش

هكذا يأكل نونو مندِز طبق باستيل دي ناتا (أو تورتة الكاسترد البرتغالية). أولاً، يحبه حسن الخَبز، مع بقع بنية قاتمة وحتى سوداء. ثم، بدلاً من إنهاء الطبق كله في قضمة أو اثنتين (كما أفعل في العادة شخصياً)، يستخدم ملعقة صغيرة ليغرف بها الكاسترد. إنها عادة اكتسبها طفلاً حين كان يجلس قرب جدته. حينها، كان "يسرق" ملعقة القهوة الخاصة بها، بحيث تشكل بقايا القهوة المحمصة إضافة إلى النكهة. يقول، متخلياً عن ملعقته ومتناولاً ما تبقى مع إسبريسو مزدوج: "يكمن السر في ترك قليل من الكاسترد في الختام".

إننا نجتمع الآن في الباتيسري الخاص بفندق Bairro Alto Hotel في لشبونة، حيث الطاهي هو المدير الإبداعي في مجال الطعام والشراب. ويشكل هذا المكان نقطة الانطلاق في جولتنا التي دامت يوماً واحداً في المدينة حيث نشأ مندِز. لقد أراد أن يجول بي على المقاهي والمطاعم المفضلة لديه، وأن يعرفني إلى مَن يعرضون أفضل المنتجات البرتغالية، ويُريني كيف أعيش وأتناول الطعام مثل مواطن لشبوني. حصل هذا كله قبل إطلاق مطعمه Lisboeta المؤلف من ثلاث طبقات، في نهاية آذار (مارس) الماضي. وستمثل "رسالة الحب إلى لشبونة" الخاصة به هذه، الواقعة في شارع شارلوت، عودته المنتظرة جداً إلى مشهد المطاعم اللندني.

قلة من الطهاة تركوا أثراً ملموساً في ميدان المطاعم بالعاصمة مثلما فعل مندِز. لقد ساعد في تكريس شرق لندن مقصداً في مجال الطهو مع Bacchus في هوكستون (مشروعه الأول في عام 2006)، وThe Loft Project في هاغرستون (نادٍ للعشاء أطلقه من منزله في عام 2009)، وViajante في بيثنال غرين الذي افتُتِح في عام 2010 وحصل على نجمة Michelin خلال سنة واحدة، وهو ما يمثل إنجازاً. وعندما عيّنه الفندقي أندريه بالازس طاهياً تنفيذياً في Chiltern Firehouse، انتقل من كونه طاهياً مبتكراً إلى طاهٍ استثنائي، مع تناول الجميع، من توم كروز إلى مادونا، ما يرد في قائمة طعامه المستوحاة من المطبخ الأميركي، وتشمل سلطة سيزر وستيك تارتار وكعكات السلطعون المميزة.

يُشتهَر مندِز، طاهي الطهاة، في هذا القطاع برعاية المواهب ومناصرة الآخرين. يتجلى سخاؤه الروحي بوضوح أكبر في المحطة الأولى في جولتنا، سوق المزارعين في ساحة ساو باولو. تدير سوق السبت ريتا سانتوس، مالكة متجر Comida Independente الذي يبيع طعاماً ونبيذاً يستقدمه من منتجين مستقلين في أنحاء البلاد كلها، ويجذب مجموعة متنوعة من بائعي الفاكهة والخضار والخبز الحرفي والأجبان، إضافة إلى أشياء أخرى. يتنقل مندِز بين لشبونة ولندن، حيث تعيش شريكته وأطفاله الثلاثة، لذلك نادراً ما يكون في المدينة في أيام السبت. وهو متحمس بشكل خاص لحضوره هنا اليوم، حيث يتنقل بين الأكشاك ويشارك المنتجين، ويكاد يرقص حماسةً.

بيفانا‭ ‬في‭ ‬As‭ ‬Bifanas‭ ‬do‭ ‬Alfonso‭ ‬ © ساندا فوكوفيتش
في‭ ‬شارع‭ ‬مادالينا © ساندا فوكوفيتش

نتوقف عند كشك يُديره جواو براتاس من Casa Pratas، وهي شركة تنتج العسل وتصنع الجبن من أزامبوجا، شمالي لشبونة. يتميز جبن الماعز الذي ينتجه ويخزنه 20 يوماً بطعمه اللاذع وقشديته، لكنه لا يُقارَن بجبن معتق 45 يوماً يكتسي طعماً “أكثر ماعزية” على حد تعبير مندِز. ثم نتجه إلى الكشك الذي يديره تياغو سينا، الذي يجوب أصقاع البلاد جامعاً الفطر. يقول إن هذا الموسم كان جافاً، إذ تتوافر أنواع أقل. أما اليوم، فهو يدير فقط الشانتريل والترومبيت، اللذين يبدوان بالرغم من ذلك ساحرين.

بالنسبة إلى مندِز، ليست هذه السوق مجرد عرض للإنتاج المحلي المتقن، بل تشكل جزءاً من قصة أكبر محورها تصالح البرتغال مع ثقافتها الغذائية. إنه حريص بشكل خاص على عرض التنوع في مكونات يتألف منها المطبخ البرتغالي ويتميز بها – بالرغم من نقاط التواصل – من الطهو الإسباني. يشير إلى أن "الكزبرة لا تُستخدَم أبداً في المطبخ الإسباني". ونظراً إلى الماضي الاستعماري البرتغالي، ترتبط أطباق عديدة بصلة قرابة أوثق بالمطبخ الآسيوي، مثل الشاموسا (نسخة من السمبوسك الهندية). ومع ابتعاد المزيد من الطهاة البرتغاليين عن عاداتهم في عالم الطهو بحثاً عن إلهام خارجي، يكرس مندِز جهوده للاحتفاء بالطبخ المحلي في البلاد.

نونو مندِز أمام Quiosque São Paulo © ساندا فوكوفيتش
أوراق‭ ‬سلطة‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬المزارعين © ساندا فوكوفيتش

يعَد البيفانا تراثاً في مجال الطهو لا يمكن نسيانه. إنه سندويش ستيك لحم الخنزير، يمكن العثور على أفضله في As Bifanas do Afonso، وهذا مطعم بسيط في شارع مادالينا. في العادة، ينتهي المطاف بمندِز هنا قرابة الثالثة صباحاً بعد سهرة عامرة. عند المنصة، يُراكم البائع شرائح لحم الخنزير التي يتقطر منها الشحم في أرغفتنا. نعصر عليها الخردل وصلصة الفلفل الحار، بينما يصف مندِز النسخة “الشديدة الفوضوية، والوسخة حقاً” التي سيعرضها في Lisboeta. ستكون جزءاً من قائمة الوجبات الخفيفة الخاصة ببعد الظهر التي تُقدَّم في منصة الطابق الأرضي: هناك ستجدون أيضاً تورتات كاسترد الحليب المخبوزة من نونو، وتُسمَّى كويجادا.

جعل مندِز من الترويج للطعام البرتغالي مهنته

بعد وقت قصير من تناولنا بيفاناتنا، يحين الوقت لتناول الغداء. لدى مندِز الكثير من تقاليد تذوق الطعام ليعرضها علي. في Fidalgo، وهو مطعم عائلي قديم في شارع باروكا، زاره مندِز ووالده أول مرة في أوائل الثمانينيات، نبدأ بأطباق النقانق المدخنة، المعروفة باسم لينغويسا. ثم يأتي طبق مندِز المفضل، الأخطبوط بيخنة الفاصوليا البيضاء، الذي يؤتى به إلى المائدة في وعاء مرجلي أسود، مع فلفل حار وزيت الروم ليُرشّا عليه. وأمام أوعية مليئة مشبعة، يرثي مندِز الاختفاء التدريجي "للطعام على البار" الذي يُقدَّم في المطاعم التقليدية. في Lisboeta، يعتزم إحياء تقليد تناول الطعام في التاتشو (وعاء) والترافيسا (طبق) بالحجم العائلي المخصص للمشاركة.

© ساندا فوكوفيتش | ألهيرا‭ ‬وفارينهيرا‭ ‬وتشوريسو‭ ‬في‭ ‬Fidalgo‭ ‬
 © ساندا فوكوفيتش |يخنة‭ ‬الأخطبوط‭ ‬والفاصوليا‭ ‬البيضاء‭ ‬في ‭  ‬Fidalgo‭

جعل مندِز من مناصرة الطعام البرتغالي مهنته. عندما نشأ في الثمانينيات، لم يكن احتراف مهنة في مجال الطعام في البرتغال خياراً. غادر لدراسة البيولوجيا البحرية في ميامي، لكن شغفه بالطهو ظل قائماً. وبعد سنة أمضاها في العمل في مزرعة ألبان تابعة للعائلة في ألينتيجو، انتهت به الحال في كلية للطهو في سان فرانسيسكو. عمل تحت إشراف طهاة مثل وولفغانغ باك وجان جورج فونجيريختن (في الولايات المتحدة) وفيران أدريا (في El Bulli بإسبانيا)، قبل الانتقال إلى لندن. لكن ندرة المأكولات البرتغالية الجيدة في العاصمة آلمته. وانزعج بشكل خاص عندما كان الطعام يُصنَّف "أيبيرياً" لأن الطاهي تصور أن صفة البرتغالي أدنى مرتبة.

أندريه‭ ‬ماغالهايس‭ ‬ونونو‭ ‬مندِز‭ ‬في ‭ ‬Quiosque São Paulo© ساندا فوكوفيتش

عززت ولادة أطفاله رغبته في إعادة التواصل مع مطبخه الوطني وتكريمه. في عام 2015، افتتح Taberna do Mercado في سبيتالفيلدز، وعرض فيه مواد غذائية برتغالية رفيعة المستوى (أُغلِق في عام 2018 بسبب صعوبات مالية). وفي عام 2017، نشر Lisboeta (اللشبوني)، وهو مجموعة من الوصفات المستوحاة من لشبونة، وقاعدة انطلاق هذا المشروع الجديد. فيه، يشيد بجدته الراحلة التي طهت أطباقاً مثل الكوزيدو (يخنة اللحم) والكانجا (عصيدة الرز) والميغاس (طبق مصنوع من الخبز المنقوع في الحليب والمقلي في "كمية كبيرة من الثوم والكزبرة").

لا يشعرني بالراحة افتتاح مطعم يُكسبني الجوائز وحدها"

بالرغم من هذه الإشادات كلها، شكلت ممارسة الأعمال في لندن تحدياً دائماً لمندِز. فالإيجارات مرهقة. وتجعله المشاريع السابقة التي أُغلِقت حذراً. وبالرغم من المنافع المالية التي رافقت العمل في Chiltern Firehouse، لم يتمكن من ترجمة رؤيته في الطهو دخلاً مستداماً وكبيراً (يخطط للانتقال إلى لشبونة مع شريكته وأطفاله، وهذا أمر قد يكون ذا تكلفة معقولة أكثر).

في أيار (مايو) 2021، افترق رسمياً عن Chiltern Firehouse، بالرغم من استعداده للرحيل عنه قبل ذلك التاريخ. أصبح Lisboeta ممكناً جزئياً لأن الإيجارات في وسط لندن معقولة أكثر اليوم. إلى ذلك، يبدو هذا المشروع الأكثر شخصياً سبيله الحثيث لطهو عالي المفهوم أكسبه الجوائز سابقاً. يقول: "لا أشعر بالارتياح عند افتتاح مطعم من هذا النوع فحسب، فهو غير متزامن مع العالم على الإطلاق. في نهاية المطاف [المطعم غير الرسمي الذي يمكن الوصول إليه] هو النوع الذي أحب أن أقصده".

تورتات‭ ‬الكاسترد‭ ‬ومعجنات‭ ‬محشوة‭ ‬بالفطر‭ ‬في ‭ ‬Bairro Alto‭ ‬Hotel Café© ساندا فوكوفيتش

يُعَد Quiosque São Paulo، محطتنا التالية، أقدم كشك تملكه جهة خاصة في لشبونة. في عام 2020، استحوذ عليه أندريه ماغالهايس، وهو كاتب في مجال الطعام والنبيذ تحول إلى طاهٍ ويتولى مسؤولية Taberna da Rua das Flores، أحد أشهر مطاعم المدينة. وبدلاً من تقديم المشروبات الغازية والطعام المعتاد في هذه الأكشاك، ابتكر قائمة طعام من البيتيسكوس (الوجبات الخفيفة) والزيريبيتيس (المشروبات الكحولية المحلاة) والمقبلات التي تعتمد على الوصفات التقليدية. تشمل هذه المشروبات أوتيدور الكحولي المحلى الفوار من البورت الأبيض الجاف والكرز، يستند إلى مشروب "أوتدور" لدى British Bar التاريخي في لشبونة، وزانزيبار، مشروبنا اليوم وهو مزيج من البيرة وشراب الزنجبيل وعصير الليم وماسالا التشات. وهنا أيضاً عرفت أن طبق سيفيتشي اسمه بانهيتا دي باكالهاو يُترجَم بعبارة "القد المالح المعالج يدوياً". يعود هذا الاسم إلى طريقة خض السكان المحليين الفيليه المالح في نوافير المدينة لتخليصه من ملوحته.

نقول وداعاً لماغالهايس ونستقل سيارة الأجرة لنعبر الواجهة البحرية كي نتناول العشاء في وجهتنا النهائية، مطعم Feitoria الحاصل على نجوم Michelin لصاحبه الطاهي جواو رودريغيز. لا يساعد رودريغيز في الترويج للمكونات الأصلية للبلاد من خلال منظمته Projecto Matéria التي لا تتوخى الربح وتبرز المنتجين والمزارعين فحسب، بل يضع أيضاً المنتجات المحلية في قلب قائمة طعامه الفاخرة. تشمل وجبتنا المؤلفة من تسعة أطباق – تقدم في غرفة ذات إضاءة خافتة فيها أغطية طاولات بيضاء ونُدل بقفازات – أطباقاً معدة بفن من الترويت والبطاطا الحلوة والبروكولي واليقطين مع جبنة ساو خورخي والحبار والترس والحمام المشوي، آتية كلها من داخل البرتغال.

إنه نهج يستند إلى المنتجات يأمل مندِز في أن يكرره في Adega، غرفة الطعام في الطابق السفلي التي تتسع لنحو 10 عملاء في Lisboeta. ومقارنة بالشكليات الرسمية في Feitoria، ستكون Adega أكثر بساطة وتشاركية، لكن لا تتوقعوا من مندِز أن يتخلى عن الصقل بالكامل. وهو قد يدمج أطباقاً تقليدية كالتي طهتها جدته، لكن طريقته في إعداد السمبوسك قد تشبه كثيراً تلك التي يقدمها في Bahr لدى Bairro Alto Hotel: إنها مصنوعة من أوراق السيليرياك المطبوخة في الحليب المتبل، والمحشوة بكاري السيليرياك، وفوقها الأزهار. إنها نسخة أساسية ومبتكرة من مندِز لأحد عناصر ثقافة المقاهي البرتغالية. 

0 تعليقات

شارك برأيك