مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

تسوق

عزة فهمي: صائغة التاريخ بحروف من ذهب

بحرفة الصائغ وتأريخ الراوي، مزجت الكتابة والثقافة والتاريخ بالحلي والمجوهرات، فلمع اسمها في مصر والعالم. زارتها How To Spend It Arabic وجالت معها في الذاكرة والمستقبل

عزة‭ ‬فهمي في‭ ‬منزلها في القاهرة © لارا إنغرام عزة‭ ‬فهمي في‭ ‬منزلها في القاهرة © لارا إنغرام

"‬يبلغ شغفي بالحلي مبلغاً أعتقد معه أنني إذا جرحت نفسي، تسيل مني بدلاً من الدماء خواتم وأقراط وأساور وعقود". بهذه الكلمات تصف مصممة المجوهرات المصرية عزة فهمي عشقها مهنتها، وهو عشق توّجها إحدى رائدات تصميم الحلي في مصر، وأذاع صيتها إقليمياً‭ ‬وعالمياً. 

بحماسة منقطعة النظير، تقول عزة فهمي: "علاقتي بعملي نوع من الجنون، تثير حتى دهشتي أنا". هذا الجنون يجعلها ترفض أن تملي عليها السوق تغييراً في شخصيتها الفنية. تضيف: "لا أُخرج من يدي قطعةً لا أحبها حباً خالصاً، وعندما أحبها يحبها الناس، والحب الذي أدسّه فيها يمسّ قلوبهم". إنَّها الحماسة نفسها التي تملّكتها منذ خمسين عاماً. حينها، وقعت على كتابٍ عن الحلي التقليدية، فبادرت إلى اقتنائه بلا تردد. كان ثمنه بضعة جنيهات، لكنها كانت نصف راتبها آنذاك. هذا الشغف نفسه دفعها إلى قضاء سنوات طويلة بين ورش خان الخليلي، متتلمذةً على أمهر الحرفيين في قلب القاهرة الفاطمية. ومن روح ذلك الحي الذي يعجّ بالآثار الإسلامية، استوحت فكرة مزج الكتابة والثقافة والتاريخ بالحلي.

عزة فهمي صغيرةً‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عائلية‭ ‬إلى‭ ‬أبيدوس‭ ‬المصرية

تتذكر عزة فهمي: "يوم جلست أول مرة في ورشة الحاج رمضان، ورأيت من مشغله قبّة جامع الناصر محمد قلاوون، أجمل ما اجترحَهُ الفن المملوكي، رأيت أسفلها كتابةً أوحت لي بالفكرة. تسأل: لماذا لا أدخل النص إلى المَصوغ؟ فنادراً ما مُزجت الثقافة المكتوبة بالثقافة الشفوية"، مستدلةً بالعقد الشهير للملكة شجرة الدر وقد حُفر عليه "عزٌّ دائم"، الموجود في المتحف الإسلامي بالقاهرة. تتابع: "عندما رأيت تلك القبّة، قررت أنني أريد أن أكتب شعراً على الحلي". نالت تلك المجموعة شهرةً تؤيد اعتقاد فهمي أنها كانت "فكرة رائعة".

"‬هاتفتني ابنتي من متحف الأرميتاج وظلت تحدثني نصف ساعة عن حلي آل رومانوف. كان قلبي يرقص فرحاً"

تميزت حلي عزة فهمي بهذا المزيج، فاستوحت من أشعار ابن حزم الأندلسي وصلاح جاهين وجبران خليل جبران الذي تقول إن قطعةً خطت فيها عبارته "لقد جمعنا الحب فمن يفرقنا" هي من أقرب تصاميمها إلى قلبها، "لكنني أكثر نضجاً الآن، ويمكنني صُنع ما هو أفضل". وبالرغم من مكانة رفيعة وصلتها، جعلت الكثيرين يصفونها بأنها "كنز قومي"، تقول فهمي: "أشعر دائماً بعدم الرضا عن نفسي في ما يخص التصميم، وربما يكون ذلك ما يجعلني أجود". في الوقت نفسه، تحذر فهمي، التي تقدس العمل والتوق إلى المعرفة، من الغرور والتوقف عن التعلم. تقول: "يقيناً.. عندما يشعر الفنان أنه وصل إلى مراده، يتوقف عن التطور. فعلى المصمم الحقيقي ألا يتوقف عن تطوير نفسه ومهاراته".

لم تكتفِ عزة فهمي باستلهام الثقافة العربية، فولّت وجهها ناحية الفنون الأخرى، الأفريقية والمغولية والفرنسية، وفنون الحقبة الفيكتورية. لكن، بالرغم من ولعها بالفن المصري القديم الذي عرفته منذ طفولتها حين كان والدها يصحبُها لزيارة المعابد القريبة من مركز عمله في سوهاج في صعيد مصر، فإنها تأخرت كثيراً في تصميم مجموعة حلي فرعونية الهوى. تبرّر: "خشيت أن أغضِب أجدادي الفراعنة. لن تقدّروا فعلاً مقدار احترامي لهم. كلما رأت عيني ما صنعوا، أوقن أنني لا يمكنني أن أصنع ما يقل شأناً، شرط ألا يكون تقليداً، فالحلي الفرعونية المقلدة متاحة في متاجر شتى، وبينها ما يتبع المتحف البريطاني ومتحف اللوفر ومتحف The Metropolitan Museum of Art وغيرها. نحن لا نقلد. إننا نبتكر". 

قرطان‭ ‬بالخط‭ ‬العربي‭

درست عزة فهمي الحضارة الفرعونية، وكانت البداية بفهم رموزها، فالفن الفرعوني حافل بالرموز، "فعلى سبيل المثال، نخبت هي الأم الحامية، وهي إلهة فرعونية تتخذ شكل النسر، فنرى الطائر وقد مدّ جناحيه فوق عشه ليحمي بيضه من الشمس ومن الطامعين، فأطلقنا اسم نخبت على عقد في المجموعة". وبالرغم من نجاح عزة فهمي وشهرتها العالمية التي نالتها على مدى عقود، فإنها تؤكد: "ما شعرت أنني أمسك بناصية الأمور، وفي يدي المفاتيح كلها لأحقق الأفضل، إلا بعد إطلاق المجموعة الفرعونية قبل سنوات".

النقد مهم ومفيد "عندما يكون مبنياً على دراية، وثمة من يقول لي إني ابتعدت كثيراً عن خطي التقليدي واخترت التحديث. لهؤلاء أقول إنني أستوحي من القديم، لكنني أتبع الاتجاهات العالمية الحديثة وأتعلّم منها". تضيف: "أحرص على تصميم حلي فائقة الجودة، وبإصدار محدود جداً. وحين أطلب ما قد يعد ثمناً مرتفعاً، فذاك ثمن الجودة، في الفكرة وفي الحرفة".


​​​​​خاتم‭ ‬"كف‭ ‬فاطمة"‭ ‬من‭ ‬مجموعة عزة‭ ‬فهمي‭ ‬الكلاسيكية



خاتم‭ ‬فرعوني‭ ‬من‭ ‬تصميم عزة‭ ‬فهمي

تكنّ عزة‭ ‬فهمي‭ ‬إعجاباً‭ ‬واحتراماً‭ ‬شديدين لابنتيها فاطمة وأمينة. تقول: "لقد تشرّبتا الصّنعة". منذ طفولتهما، رافقتاها إلى محترفها في العطلات المدرسية، وكان طبيعياً أن تختارا العمل معها بعدما أتمتا دراستهما. فاطمة تتولى الإدارة والتسويق، وقد حققت نقلة نوعية للشركة التي توسعت كثيراً بفضل سياستها التسويقية. فبعدما كانت صالة عرض "العين" في القاهرة أول متجر لفهمي، تملك اليوم عشرة متاجر في مصر، ومتجراً في كل من لندن ودبي وعمّان. أما أمينة فاختارت أن تخطو خطوات والدتها في تصميم الحلي، وهي أدخلت إلى الصنعة خطوطاً حديثة وجريئة.

المصممة‭ ‬وابنتاها‭ ‬فاطمة‭ ‬وأمينة

تبتسم عزة فهمي فخورة بابنتيها، معترفةً بأن تأثيرهما فيها وفي Azza Fahmy Jewellery كان "كبيراً جداً. فهما ساهمتا في انتهاج أساليب جديدة. أنا أصنع قطعاً ناجحة، لكن لا بد من خطة تسويقية ومن استراتيجية ناجحة. دخلنا الساحة العالمية، وكان يجب أن نعمل طبقاً لقواعد هذه الساحة، وأنا لا أستطيع ترك عملي لأتعلم ذلك". اضطلعت ابنتاها بهذه المهمة. فكانت أمينة تذهب إلى إنكلترا لتجالس مصممي الأزياء أثناء وضعهم خطوط الموضة للعام التالي، فتتعرف إلى الاتجاهات المهيمنة على هذا القطاع، "فترشدني مثلاً إلى أن العقد موضة، أو الأقراط الكبيرة هي آخر صيحة العام… وهكذا". لكن ذلك لا يعني أن تنساق وراء كل الاتجاهات المهيمنة: "نأخذ بالطبع ما يلائمنا، فنحن لا نبتكر موضةً فحسب، إنما نصنع ثقافةً". تضيف: "بالطبع، تعلمت من ابنتيّ هيكلية الشركات والنسب التجارية والفنية التي يجب اتباعها في كل مجموعة حلي، كتكريس 20 بالمئة لما هو خارج عن المألوف، وما يداخله من جنون الابتكار، لكن لا يجرؤ كثيرون على ارتدائه، و40 بالمئة لقطع متوسطة الحجم، على أن تكون نسبة 60 بالمئة من إجمالي المجموعة قابلةً للتسويق، فهي التي ستردّ علينا دخلاً".

كان انضمام فاطمة وأمينة إلى Azza Fahmy Jewellery أمراً طبيعياً، نابعاً من قرارهما الشخصي. فقد كانتا مساعدتيها منذ صغرهما، وقد أطلقت علامةً تجاريةً ناجحة. تتذكر فهمي بسعادة يوم هاتفتها أمينة من متحف Hermitage في روسيا، وظلت تحدثها نصف ساعة عن حلي آل رومانوف الذين حكموا روسيا حتى الثورة البلشفية في عام 1917. تقول: "كان قلبي يرقص فرحاً. شعرت أنني غرست فيها غرساً جميلاً، وها هو يُزهر الآن".

عزة فهمي‭ ‬شابةً‭ ‬وبيدها‭ ‬صقرٌ
عزة فهمي‭ ‬تلميذة‭ ‬جامعية

ترك لها تولي ابنتيها أموراً عديدة في الشركة مساحةً لتُطلق العنان لإبداعها. تقول عزة فهمي: "أنا فنانة، وأحب أن أكون فنانة، لا مصممة"، مشددة على فارق بين الصفتين قد لا يُدركه إلا الشغوف: "فالفنان حرٌّ يفعل ما يريد، لا يتردد في إبداع ما يمكن أن يرميه آخرون بالجنون، بينما يتبع المصمم القواعد المنصوصة. وأنا بلغتُ سناً أحب أن أكون فنانة، وهذا ما يتيحه لي وجود فاطمة وأمينة إلى جانبي. فوجودهما يمنح حسّي الإبداعي حيزاً، أضيفه إلى حيّز يقيّدني، ويفرض عليّ أن أكون المصممة، حتى تقف هذه الشركة على قدميها". وإلى الفارق بين الفنان والمصمم، تصر فهمي على الفارق بين الفنان والحرفي. تقول: "الفنان هو من يخرج بمفهوم التصميم، هو صاحب الأفكار. مثلاً، إذا قيل لي إن الربيع هو موضوع مجموعتنا التالية، أرى كل أنواع الزهور وكيف يكون منظرها في الربيع. هذا هو المفهوم. لكن الحرفي يعرف كيف يُجيد ترجمة هذا المفهوم". بحسبها، صار المفهوم الآن لبَّ صناعة الحلي. 

‬"يقيناً.. عندما يشعر الفنان أنه وصل إلى مراده، يتوقف عن التطور"

ترسم عزة فهمي تصاميمها رسماً بالقلم على الورق، فهي لا تميل إلى استخدام التقنيات الحديثة لترجمة إلهامها. تقول: "الحاسوب يُزيل عن التصميم اللمسة الإنسانية. أرسم بيدي لأن إحساسي يظهر في الرسم، وأترك الجانب التقني للآخرين. ففي النهاية، لا بد من أن يتدخّل الحاسوب لدراسة النسب بدقة". كما تؤكد أهمية التعليم، "لو أتيحت لي فرصة التعلم كما أتيحت لابنتي أمينة التي درست تصميم الحلي خمس سنوات في إنكلترا وسنتين في إيطاليا، لبلغتُ أرفع المستويات". لكن، لا مكان واسعاً لهذه الـ "لو" في حياة فهمي، السيدة التي تعرف مهارتها ومقدار الجهد الذي بذلته لترتقي مكانةً جعلت منها، بشهادة كثيرين، كنزاً قومياً. تقول: "في الحقيقة، ما علّمني أحد، لكن عندما حصلت على الدكتوراة الفخرية، قلت أنا فعلاً دكتورة في الحلي، فهناك أيضاً خبرة إنسانية أضيفها إلى حرفةٍ اكتسبتها من الحرفيين الذين عايشتهم، ومن عملي بيدي".

‬كتاب‭ ‬مذكرات عزة ‬فهمي‭ ‬"أحلام‭ ‬لا‭ ‬تنتهي"

تخشى‭ ‬عزة فهمي‭ ‬على‭ ‬حرفة‭ ‬صوغ الحلي من سطوة المال. بالنسبة إليها، السعي وراء المكسب أثَّر سلباً في إبداع المصممين في العالم، مقارنةً بأزمنة كانوا يطلقون فيها العنان لإبداعهم من دون التقيّد بالقيود المادية. تقول: "فقد المصممون الكثير بحثاً عن المال. صارت احتياجات السوق تفرض على الفنانين إنتاج ما لا يحبونه، فنُلاحظ أن ثمة استسهالاً في مجموعات عالمية عصرية مقارنة بمجموعات قديمة". ربما ينبع هذا الرأي من جانبها العصامي، هي التي علّمت نفسها بنفسها، واعتمدت على قوة إبداعها، وهذا ما صقل شخصيتها، وقوّى عزيمتها، وجعلها أكثر التصاقاً بالفنانة التي في داخلها، وأشد حزماً في عملها. لهذا، لا تتردد في نقل معرفتها إلى أخريات بتأسيسها مؤسسة عزة فهمي منذ عشرة أعوام، ومدرسة عزة فهمي لتصميم الحلي. تقول: "المؤسسة مشروع خيري يعمل على مشاريع لتطوير مناطق نائية من طريق التدريب وتطوير الحرف. لدينا مشروع مع مؤسسة ساويرس، وهي من أكبر المؤسسات في مصر، لتطوير أسوان في صعيد مصر، حيث نعمل على تطوير الحرف الموجودة لصناعة منتجات عالية الجودة يمكننا بيعها دولياً، فنرفع بذلك من مستوى الحرفيين في أسوان". أما مدرسة عزة فهمي لتصميم الحلي فقد تخرجت فيها 100 فتاة، تعتبر 30 منهن من أفضل من يعملن في السوق المصرية الآن. لا تعمل أي منهن لدى فهمي، "لكننا بدأنا نفكر في الاستعانة بهن كي نتوسع، فلا أكون أمينة وأنا وحدنا من نقوم بالتصميم". 

تلامذة‭ ‬عزة فهمي‭ ‬في‭ ‬المشغل
إحدى‭ ‬تلميذات عزة‭ ‬فهمي‭ ‬تستخدم‭ ‬الطرق‭ ‬في‭ ‬تصميم‭ ‬المجوهرات

لا تغادر عزة فهمي مصر. تقول: "كالسمكة التي إن خرجت من الماء تموت. وجودي في هذا البلد. إنني محظوظة أن أكون في هذا الجزء من العالم". لهذا أطلق عليها الشاعر الفلسطيني محمود درويش لقب "العصفورة الوطنية". تُضيف: "أشعر أنني مرتاحة لأنني أترك ورائي عصافير كثيرة عرفت كيف أغرس فيها شيئاً ما، وأتمنى أن أكون قد نجحت في ذلك". في بالها أن تقيم متحفاً للحلي، يضم إبداعاتها وإبداعات أخرى من حلي تقليدية على مر التاريخ، وهذا واحد من "أحلام لا تنتهي".. تماماً كعنوان مذكراتها التي نشرتها أخيراً. تقول: "كل حلم ناجح يولّد حلماً ناجحاً، وهكذا.. إلى ما لا نهاية. حلمي أن أجمع كل القطع التي صممتها في أرشيف يحفظها، فهذا مهم لمصر. نسميه متحفاً أو أي اسم آخر. أعتقد أن ذلك سيكون مشروعي في عشرة أعوام مقبلة".‭ 

شارك برأيك

0 تعليقات