كانت الآلة الكاتبة وسيلةً من وسائل قليلة جداً استُخدِمت في الماضي للتدوين ورقياً. ولا شكّ في أنَّ أغلبية أمّهات الكتب الصادرة في القرن العشرين طُبِعت على آلةٍ كاتبة. في طفولتي، كان طموحي أن أكون كاتباً، وكانت الآلة الكاتبة أداةً عملية لأحقّق هذا الطموح.
في تسعينيات القرن الماضي، التقيتُ سيدةً سبقت الآخرين إلى اعتماد الحاسوب. أقنعتني بأن عليّ اقتناء حاسوبٍ محمول والتخلّي عن آلتي الكاتبة القديمة، عذرها أنّ ذلك يعزّز إنتاجيتي في الكتابة. علّمتني هذه السيدة كيف أطبع على الحاسوب، وكيف ألصق وأسحب وأُفلت، وللحقّ وجدته فعلاً أكثر إنتاجية، إلى أن تغيّر الوضع قبل سنوات قليلة.
في عام 2007، تلقّيت اتصالاً هاتفياً من الروائي الأميركي بول أوستر، يبشّرني بأنه ألّف لي قصة فيلم بعنوان The Inner Life of Martin Frost (الحياة الداخلية لمارتن فروست)، تروي حكاية كاتب يعمل على إنهاء كتابه. وبول تقليدي في حياته، فهو لا يزال إلى اليوم يستخدم الآلة الكاتبة في طباعة كل شيء، وقد حملني على استخدام آلة كاتبة خلال تصوير الفيلم. كانت آلةً مدهشة حقاً. كانت الآلات الكاتبة التي استخدمتها سابقاً من طراز WHSmith أو Ryman، لكن الطباعة على آلة بول، وهي من طراز Olympia SM9، كانت أشبه بالعزف على بيانو جميل، وأصبحتُ بفضلها بارعاً جداً في الطباعة، حتى طلبت منه أن يزوّدني بآلةٍ مماثلة أحفظها في غرفتي بالفندق لأتمكّن من متابعة تأليف روايتي، إذ بدا لي أن الوحيَ كان ينزل عليّ أسرع كثيراً حين أستخدمها.
بعد انتهائنا من تصوير الفيلم، وقعتُ على آلةٍ كاتبة مشابهة في الشكل لآلة بول، معروضة للبيع على موقع eBay. أدركت حينها أنه يمكن الحصول على آلات كاتبة بسعر زهيد، بين £3 و£5 في معظم الأحيان، فصرت أشتري آلةً كل أسبوع تقريباً. كان بعضها سيئاً جداً، بل مروّعاً، فكنت أرميها أو أستعملها وعاءً للنباتات. لكنني كنت، من حينٍ إلى آخر، أقع على آلةٍ كاتبة تكاد تكون كاملة الأوصاف. تعلّمت إصلاح بعض أعطال هذه الآلات، كما تعرّفت إلى أفضل ماركاتها، ومنها Olympia وHermes وUnderwood وRemington، لكنني ما أوقفت البحث عن الآلة الكاتبة المُثلى.
في حوزتي اليوم نحو 40 آلةً كاتبة يتراوح تاريخ صنعها بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته. كلها جيدة جداً، وجميلة إلى حد ما، وأنا أستخدمها فعلياً في عملي، فقد طبعت أجزاءً من روايتي الجديدة على إحداها؛ أما السبب فبسيط، فأنا لا أحب الجلوس طويلاً أمام الشاشة، كما أنك لا تشعر بالطاقة الكافية أمام شاشة الحاسوب. إلى ذلك، أنا أكتب بالقلم في معظم الأوقات، وأعتني كثيراً بخطّي وأنمّقه كثيراً، لذلك لا يمكنني أن أُسرع في الكتابة. وهكذا، السبيل الأسرع لتدوين أفكاري على الورق هو استخدام الآلة الكاتبة. وهذا حقاً ما أفعله.
أسوةً بالآلات الموسيقية، للآلات الكاتبة المختلفة أمزجة مختلفة، وأن تشعر بمزاج آلتك الكاتبة جزءٌ من متعة الطباعة. إنها آلة؛ وحين تستخدمها تصبح أنت نفسك جزءاً من تصميمها. إلى ذلك، في استخدام بعض أنواع هذه الآلات متعة أكبر من استخدام سواها، فالآلات الكاتبة من طراز Olympia Travellers تتصف بطابعها العملي، والأمر نفسه يُقال عن نماذج Hermes Baby، لكن لا يوجد آلة كاتبة كاملة الأوصاف، إذ لكل واحدة ميزةٌ معينة تميّزها من الآلات الأخرى. أحياناً، ربما يكون سبب تفضيل آلة على أخرى بسيطاً جداً، من قبيل "لديّ آلة كاتبة زرقاء وأخرى خضراء، واليوم أرغب في استخدام الزرقاء".
في معظم الأحيان، أبحث لأعرف أي آلات استخدمها الكتّاب الآخرون، فأنا أعلم أنهم بحثوا بجدية عن آلة كاتبة تُلائمهم. كان كارسون ماكولرز يستخدم آلة كاتبة من طراز Olivetti، آلة لا بأس بها، أملك شخصياً واحدة منها. واقتنى جاك كرواك آلةً كاتبة من نوع Hermes 3000، لعلها الأجمل على الإطلاق. أملك أيضاً آلة كاتبة من طراز Imperial Good Companion، النوع الذي كان يفضّله جون لينون. إلى ذلك، لم أقتنِ يوماً آلةً كانت تملكها شخصية معروفة، مع أنني أتساءل غالباً عن هوية مَن طبعوا على آلاتي الكاتبة قبلي. أحياناً، تأتي هذه الآلات مع أدلّة صغيرة تكشف عن هوية أصحابها، لكنني لم أقع على أي دليل فضائحي، إنما كانت رسائل أو قصائد، لا أكثر.
يسألني الآخرون: "وماذا لو ارتكبتَ خطأ ما؟"، أجيبهم بأن الأمر ليس مهماً، وبأن اقترافَ الأخطاء جزءٌ من عملية الطباعة. ثم يقولون لي عادةً إن الآلة الكاتبة بطيئة جداً (ليست كذلك). في كل حال، لا علاقة لجودة الكتابة بالسرعة. فالكاتب لا يُسأل، "بأي سرعة أنجزتَ كتابك؟" بل يُسأل عن جودة ما كتب! أحب جميع الأخطاء، والبقع، والكلمات المشطوبة، والحبر المندلق على الورقة. لديّ نسخٌ قليلة عن مخطوطات قديمة، بعضها لأعمال وولف وبعضها الآخر لأعمال وايلد. وأحب أن أرى ما كُتِب أولاً وما حلّ مكانه بعد التحرير. وفي العادة، كلما عمّت الفوضى في الصفحة، كان مضمونها أفضل.
لم أعثر بعدُ على آلةٍ كاتبة من طراز Olympia SM9 كتلك التي يستخدمها بول أوستر، وهي النموذج الأفضل بين الآلات الكاتبة. وجدت آلات متداعية ومعطّلة، فالنماذج الجيدة قليلة، لذلك أوقفت البحث عن آلات كاتبة على موقع eBay، فيكفيني ما اقتنيته منها حتى الآن، وسيكون غريباً أن أبتاع المزيد. في الواقع، الأمر غريب أصلاً، فقد خزّنت آلاتي الكاتبة، وعددها 40، في عُلّية المنزل. وزنها ثقيل، كما تعلمون، وربما عليّ أن أقلق من احتمال سقوط السقف.
كتاب Shooting Martha (تصوير مارثا) لديفيد ثوليس من منشورات Weidenfeld & Nicolson بسعر 14.99£