امتهنت الصحافة بسبب هاجس يتملكني. فمنذ نعومة أظفاري، كان جدّي، الحكواتي الفذّ، يطلب مني الجلوس بعد وجبة الغداء في أيام الآحاد ليقص على مسامعي بعض الروايات عن "لبنانِه": هذا اللبنان الذي عرفه في ما مضى ويبدو أنه لم يُشفَ منه مطلقاً. أتذكّر أنه كان يصرّ دائماً على قول "بيروتي، لبناني"، مع شعورٍ بالتملّك اكتشفتُ لاحقاً أنه موجود لدى معظم اللبنانيين. لا أتحدّث هنا عن نزعةٍ قومية أو عن الرغبة القوية في حيازة قطعة أرض لأجل الأرض بحد ذاتها، بل إنها رغبة، لا بل توق إلى حمايتها، وإلى صون شيءٍ يوشك على الاندثار.
فيما كانت سحبٌ بيضاء صغيرة تتكوّن في كوب مشروب العرَق، كان جدّي يبدأ بسرد حكايات خيالية من الماضي. كان يصطحبني أحياناً في جولة في الحي حيث ترعرع، على مقربة من المكتبة حيث درس في كتب الحقوق الأولى، ومن الملهى الليلي حيث كان يصطحب جدّتي للرقص؛ فيُقدّم شهادة على المعالم والأمكنة وكأنّي به يثبت لي أن هذا العالم الآفل كان موجوداً حقاً في ما مضى. وفي معظم الأحيان، كنت أرى أنقاضاً، أو في أفضل الأحوال ندوباً خلّفتها الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاماً قبل أن تضعَ أوزارها في عام 1990. لكن وسط هذا الدمار، كانت حكايات جدّي تنساب الواحدة تلو الأخرى، فيسطعُ العصر الذهبي من جديد، أي تلك المرحلة التي امتدّت عقدَين من الزمن قبل اندلاع الحرب وكان جدّي يسترجعها في رواياته. مع مرور السنين، وفيما كنت شاهداً على بلادي المقيمة دائماً عند حافة الفوضى والخطر، بدأت أقلق من احتضار هذه الروايات. وشعرت بأنني أنغمس أكثر فأكثر في مهمة الحفاظ عليها وعدم التفريط بها. لذلك أصبحت صحافياً.
![]() | ![]() |

يختبر عدد كبير من أبناء بلادي، في الزمن المعاصر، هذه النوستالجيا الغريبة جداً؛ إنها نوستالجيا التوق إلى زمنٍ لم يعرفوه مطلقاً. في العام الماضي، في 4 آب (أغسطس)، دوّى انفجار ضخم زارِعاً الدمار والفوضى في العاصمة بيروت. وأدّت أزمةٌ اقتصاديةٌ تسببت بها طبقةٌ حاكمة تُمعن في قهر شعبها، إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للبلاد. لبنان يتغيّر؛ فالبلد في مخاض مؤلم وعسير سينبثق منه بلدٌ آخر ما زلنا عاجزين عن تحديد معالمه. في مثل هذه المنعطفات التاريخية، ماذا يحلّ بذكرياتنا؟ أين يمكن حفظ تلك الحكايات بأمان؟
" نحن هنا للحفاظ على تلك الحكايات والحرص على أن تُخَطّ روايات مختلفة يومياً"
يشعر البعض بأن من واجبهم تكريم تلك الذكريات والحكايات في خطوةٍ أشبه بتحدّي الأزمة الراهنة. ريما الحسيني من هؤلاء. فهي تعتبر نفسها "حارِسة" فندق Palmyra، ويعد واحداً من أقدم ثلاثة فنادق في منطقة الشرق الأدنى. سيحتفل هذا الصرح الذي يقع قبالة آثار بعلبك، بعيده الخمسين بعد المئة في عام 2024. إنه أكثر من مجرد فندق، فالإقامةُ فيه رحلةٌ بكل ما للكلمة من معنى؛ رحلةٌ تتوه فيها، أو تشعر أحياناً بأن مسارَك يتقاطع مع مسارات تخيّم عليها خيالات الشخصيات المرموقة التي نزلت في هذا الفندق في ما مضى. في عامَي 1956 و1960، حلّ الشاعر والفنان الفرنسي جان كوكتو ضيفاً على الفندق حيث أقام في الغرفة 27 وخربش على جدرانها. لا تزال رسومه هناك، على حالها، متحدّيةً الزمن. ومن الشخصيات التي تركت بصمتها هناك أيضاً فنانون مثل نينا سيمون، وجوان بيز، وإيلا فيتزجرالد، وفيروز الذين شاركوا في مهرجانات بعلبك الأسطورية، في معبدَي باخوس وجوبيتر على مقربة من الفندق، ناهيك عن الرسائل التي دوّنها في السجل الذهبي كل من ألبرت أينشتاين، وشارل ديغول، ومصطفى كمال أتاتورك، وشاه إيران الأخير. وبالرّغم من أن فندق Palmyra يقع في سهل البقاع الذي كان ساحة للمعارك خلال الحرب الأهلية وبعدها، إلا أنه استطاع أن يصمد ويستمر، كأن معجزةً أنقذته.

تقول الحسيني التي ابتاع زوجها علي هذا الفندق في عام 1985 لرغبته في الحفاظ على هذا الكنز: "نحن حرّاس هذا المكان. واليوم أكثر من أي وقت مضى، يمثل معلماً مهماً في تاريخ البلاد. فابتداءً من المعابد المواجِهة لنا وما ترويه من حكايات عن الحضارات المختلفة ووصولاً إلى سجل الفندق حيث أسماء المسافرين من مختلف مشارب الحياة والجنسيات، تلك هي المزايا التي تجعل من هذا المكان مهداً للثقافات". أضافت: "لم يمر لبنان بأزمنة جيدة أو سيئة [آنذاك]. الأشخاص هم مَن يصنعون المكان، وهذا ينطبق تماماً على Palmyra. إنه عجوز، وفي سيمائه تجاعيد خلّفها آلاف المسافرين. نحن هنا للحفاظ على تلك الحكايات، والحرص على أن تُخَطّ روايات مختلفة يومياً".
في قرية حصرون الواقعة في شمال لبنان على مسافة 90 دقيقة من بيروت، تنتصب فيلا حداثية صمّمها الراحل توفيق شمعون في عام 1965. في تلك الحقبة، لم تكن هذه المنازل الصيفية منارات للتقدّم المعماري فحسب، بل كانت تجسّد أيضاً (لا بل بصورة أساسية) نمط العيش في العصر الذهبي. يقول روني زيبارة، حفيد شمعون: "هنا كنت أمضي فصل الصيف في طفولتي، كانت القرية مركزاً اجتماعياً وسياسياً في شمال البلاد، حيث كان بريق الستينيات يتجلى في الحفلات والمناسبات". بعد أعوام قليلة من بناء الفيلا، خُطِف شمعون وفارق الحياة في الأسر.
كانت فاجعة كبيرة للعائلة التي أقفلت أبواب الفيلا وهجرتها طوال ما يناهز 45 عاماً. لكن زيبارة قرّر في العام الماضي "إعادتها إلى أمجادها السابقة، بالمحافظة على الحكاية والتصميم، مع اللمسات والتفاصيل المطلوبة". وسرعان ما تحوّل مشروع الترميم إلى مشروع يخص قرية حصرون بكاملها. يقول زيبارة: "انكبّ سبعون رجلاً وسيدة من القرية على العمل يومياً على مدى أكثر من ستة أشهر لبثّ الحياة من جديد في هذا المكان. كانت الفيلا حاضرة في نشأة هؤلاء الأشخاص. كانت تتمتع بمزايا أسطورية بالنسبة إليهم، فقد عمل أهلهم وأجدادهم في بنائها في الستينيات".
"وسط كل ما يجري في البلاد يبدو Beit Trad كأنه من عالمٍ آخر، في قلب واقعٍ مغاير"
أكثر ما يلفت الأنظار في Villa Chamoun خيوطها الانسيابية التي تجمع بين فن العمارة الذي تميّزت به الحقبة الجميلة أو ما يُعرَف بـ belle époque في ستينيات القرن الماضي، والمعايير المثالية لبيت ضيافةٍ حديث. لتحقيق ذلك، استعان زيبارة بحِرَفيين ومصمّمين محليين مثل ندى دبس، وميليا مارون، ورنا سلام للمشاركة في تصميم الفندق، حيث تشاركوا أفكارهم لإعادة اختراع تجربة قريةٍ لبنانية. فسواءً أقمتَ في جناح Bacchus الذي صمّم جدرانه الفنان أوين غرانت إينز المقيم في لندن، أو في الشقة الزرقاء المستلهَمة من التاريخ الروماني في لبنان، أو اكتفيت بالاسترخاء تحت المظلات الزهرية الواقية من أشعة الشمس والشبيهة بالسكاكر عند المسبح، والاستماع إلى سمفونية تؤدّيها حشرات الجداجد في الخلفية، يراودك شعورٌ حقيقي بأن هذا "بيت ضيافة يتحوّل إلى بيت ضيف"، بحسب تعبير زيبارة، فهو ملاذٌ ملائمٌ لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أجواء مفعمة بالحنين إلى الماضي.

هذا الشعور باللجوء إلى ملاذ مريح، في أحضان معالم حقيقية إنما أيضاً في حنايا زمنٍ غابر حين كانت الحياة أكثر سهولة وسعادة، هو ما يبحث عنه لبنانيون كثرٌ الآن، في خضمّ أحداث تعصف بالبلاد ويعجز الكلام عن وصفها. هذا ما دفع بسارة طراد إلى افتتاح Beit Trad في الكفور، حيث حوّلت المكان الذي كان منزلاً صيفياً لعائلتها في الثمانينيات إلى بيتٍ للضيافة. تقول: "في ذلك الوقت، كنّا نُقيم خارج البلاد ونعود إلى لبنان لتمضية شهرَين في الصيف. كانت والدتي تملأ البيت بأفراد العائلة والأصدقاء والحفلات. وكانت تبثّ فيه باستمرار أجواء من المرح والتسلية. إذاً كان، بطريقة أو بأخرى، ‘بيتاً للضيافة‘ على الدوام".
يتميّز Beit Trad بذوق استثنائي وبرقيّ لا مبالغة فيه، ابتداءً من الأطباق المصنوعة منزلياً التي تُعيدكم إلى مطبخ جدّتكم وصولاً إلى الديكور الداخلي مع الأثاث الخالي من الشوائب، والأسرّة الناعمة والطريّة كما السحب في السماء. تقول طراد إن الشعور بالارتماء في أحضان ملاذٍ مريح يعزّزه "موقع المكان في الجبال، وسط الاخضرار، بعيداً من الصخب والضجيج، وكل ما يجري في البلاد. يبدو Beit Trad كأنه من عالمٍ آخر، في قلب واقعٍ مغاير". ويُقدّم أيضاً نموذجاً يزداد ندرة، إنه نموذج الضيافة المشرقية الأصيلة.
يتّسم أسلوب الحياة المشرقي بطابعٍ يفوق الوصف. فهو ينضح روحاً ويدغدغ القلب والمذاق. لم يكفّ جدّي عن سرد الحكايات على مسمعي عن فندق Grand Sofar Hotel، حيث كان يُمضي الصيف مع عائلته، وقد حوّلته الحرب إلى أنقاض قبل عقود عدة. بالطبع، كان يتحدث عن تلك الردهة الفخمة، وتلك الحفلات الراقصة الصاخبة حيث ترتدي المدعوّات فساتين السهرة ويضع المدعوّون ربطات عنق سوداء، وعن اللعب بطاولة النرد عصراً تحت أشجار الجوز، وموكب السيارات الجميلة التي تصطف أمام البوّابة الكبيرة. لكنه كان يتوقّف دائماً ويُغمض عينَيه حين يتذكّر قالب الحلوى بالشوكولا في Grand Sofar Hotel، وكيف كانت طبقته الخارجية تكشف، مضغةً تلو الأخرى، عن تركيبته الذائبة التي لا تضاهى. كان يُقسِم قائلاً: "لم أتناول قالب حلوى مثله منذ ذلك الوقت". أعتقد أنه يفتقد المشاعر التي تولّدها لديه تلك اللحظة بقدر ما يفتقد قالب الحلوى بحد ذاته. في لبنانِهِ، المبنيّ حول مآدب الغداء التي لا تنتهي في أيام الآحاد، وطاولات الطعام الشبيهة بالولائم، هذه النكهات والمذاقات هي الحارسة الأمثل للزمن القديم.
أمضيتُ الصيف الأخير في لبنان، ولا أغالي إن قلتُ إن الغصّة كانت رفيقتي الدائمة. بدت الأيام طويلةً وثقيلة الوطأة فيما كنت شاهداً على مغادرة أصدقائي وأحبّائي البلاد، الواحد تلو الآخر، وسط الانقطاع المتواصل في التيار الكهربائي والسعي إلى تأمين السلع الأساسية كالمحروقات والأدوية. في المساء، حين كنت أبحث عن بعض السكينة وشعور بالراحة، كنت أستهلك الليترات القليلة من البنزين في خزان الوقود في سيارتي للذهاب إلى مطعم Fadel في منطقة النعص قرب قرية بكفيا. هناك افتتح إميل فاضل مطعمه في عام 1975، "والسبب ببساطة هو أنه كان يحبّ الأكل، ورؤية الأشخاص يبتسمون حين يقدّم لهم الطعام"، بحسب ما قاله لي نجله إلياس. في هذه الكبسولة الزمنية التي تطلّ على غابات الصنوبر في المتن، لم يتغيّر شيء. فالنُدُلُ أنفسهم يستقبلون الزبائن أنفسهم وكأنهم أسرة واحدة؛ والكراسي المصنوعة من الخيزران الهندي لا تزال في مكانها؛ وبالطبع أطباق المازة التي حافظت عليها زوجة فاضل وأولاده. يقول إلياس: "نحن موجودون هنا يومياً، في المطبخ، ويتملّكنا الشعور نفسه بالحماسة والتوتر كأننا نفتتح المطعم هذا الصباح. والآن أكثر من أي وقت مضى، إذا استطعنا أن نُسعِدَ روّاد مطعمنا بالأطباق التي نقدّمها لهم، فيما نحافظ على [تلك] الذكريات، نكون قد أنجزنا مهمتنا".
كنت أتوجّه أحياناً إلى قرية بعبدات المجاورة، حيث كنت أمضي فصل الصيف في ما مضى. وكنت أقصد تحديداً محل Azrak للمثلجات الذي كان معلماً من معالم طفولتي. أسّس غوفريل أزرق المطعم في حلب في عام 1935، ثم هاجر إلى لبنان، أسوةً بعدد كبير من السوريين في ذلك الوقت. اشتهر Azrak أولاً بالمرصبان والحلويات المنزلية الصنع، ثم بدأ يصنع المثلجات من مكوّنات طبيعية. يتولّى نجله ريري إدارة إنتاج المثلجات التي تُصنَّع بـ 25 نكهة منذ 30 عاماً. حتى يومنا هذا، في كل مرة أفتح فيها الباب، وفي كل مرة يُطالعني ريري بضحكته فيما يُقدّم إليّ نكهةً أو اثنتَين من نكهاتي المفضّلة، وهي الفستق، وماء الورد، والموز، واللوز، ترتسم الابتسامة على وجهي. أبتسم لبساطة النكهات، ولبساطة اللحظة التي تردُّني إلى أزمنة أكثر حلاوة؛ وأبتسم للشعور بأن هذه الذكرى، وهذه الحكاية، تبدوان بأمان.
فندق Palmyra، إحداثيات موقعه 2633+FQ9، بعلبك، هاتف 127 371-9613+. فيلا شمعون، شارع توفيق سليم شمعون، حصرون، هاتف 305 023-9613+، villachamoun.com. فندق Beit Trad، إحداثيات موقعه 2MMW+966، الكفور، هاتف 242 414-96170+، beittrad.com