مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

فنّ

"ها قد أتت فتياتي وتملّكن الغرفة"

تجسِّد أعمال ليزلوت واتكينز الفنية الحياة في إيطاليا من خلال عدسة سويدية

La Cura من عام 2020 من سلسلة Mare La Cura من عام 2020 من سلسلة Mare

"متحف ميلزغاردن هو صالة العرض المثلى"، هذا ما تقوله الرسّامة السويدية ليزلوت واتكينز عن حديقة النحت وصالة العرض والفيلا الواقعة في جزيرة ليدينغو في أرخبيل ستوكهولم، حيث افتُتِح معرضها الفردي قبل أسابيع. يمتلئ المتحف الذي شُيِّد في مطلع القرن العشرين (1906-1908) وكان منزلاً ومحترفاً للنحّات الراحل كارل ميلز، بمنحوتاتٍ لملائكة وآلهة وحوريات رشيقات جعلت من المكان "سيد النوافير". تجمع الهندسة المعمارية بين الأسلوب الرومانسي الوطني والزخارف النيوكلاسيكية، ومن أبرز معالمها نحو 50 عموداً تؤطّر المنحوتات والنوافير في الحديقة، وكأنّ فن العمارة في المتحف تحيةٌ توجّهها اسكندنافيا إلى روما القديمة.
 

"يدهشني البحر في الثقافة الإيطالية"

تقول واتكينز التي لم تزر ميلزغاردن منذ عقود عدة، وقد عادت إليه أول مرة في عز الشتاء هذا العام من أجل التحضير لمعرضها: "إنه مكان سحري جداً". يمثل هذا الحدث عودةً إلى الوطن والجذور بالنسبة إلى واتكينز التي أبصرت النور في نيكوبينغ التي تبعد 100 كلم جنوب ستوكهولم، لكنها تعيش في إيطاليا منذ عام 2009، وهي أقامت أولاً في ميلانو ثم في روما قبل أن تنتقل أخيراً إلى توسكانا. تقول: "حين عدت إلى هنا قادمةً من إيطاليا حيث أقيم، رأيت كل شيء بعينَين جديدتين. تلمسون عشق ميلز لروما ونابولي في كل مكان: في الأعمدة والألوان وفن العمارة. الحديقة مليئة بالأشجار الاسكندنافية، لكن حتى عندما تكون مغطاة بالثلوج، تحافظ على طابعها المتوسطي".


  ‬‬
La‭ ‬Cura، من عام 2020
 

La‭ ‬Tenda‭ ‬Rosa‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، من عام 2020
           

من خلال العدسة السويدية نفسها، تُقدّم الرسّامة مجموعة Liselotte Watkins’ Italy (إيطاليا‭ ‬بحسب‭ ‬ليزلوت‭ ‬واتكين) المؤلّفة من لوحات قماشية كبيرة ورسوم ملونة على السيراميك والتي ستستوطن منزل ميلز ومحترفه الذي أقامه في قلب الحديقة حيث تُعرَض لوحة جصية لـBay of Naples. أنجزت واتكينز عدداً كبيراً من الأعمال المعروضة في العام الماضي حين كانت محجورة في الشقة التي تتشاركها في روما مع زوجها السويدي الذي يعمل مديراً للتواصل في قطاع الموضة، ومع ولدَيهما. تعلّق الرسّامة البالغة من العمر 50 عاماً والتي بدأت بتصميم مشاهد مستوحاة من أجواء نابولي ثم تجسيدها في تصاميم داخلية خيالية: "كنت أرسم وأرسم وأرسم".‬‬‬‬

تقول عن المنازل والشقق القديمة على البحر حيث أقامت خلال أيام العطل الغابرة في إيطاليا والتي سلكت طريقها نحو لوحاتها: "كنت أرى الكثير من أحلام اليقظة". تجسّد لوحة Letto Singolo غرفة باللون الأزرق الفاتح فيها سرير مفرد ومفروشات خالية من الزخرفة، في حين تعبّر لوحة La Tenda Rosa عن غرفة خافتة الضوء مع ساعة وشمعة قرب السرير. وفي بعض اللوحات، تظهر ابنتها آفا وأصدقاؤها. على الرغم من أن هذه الأماكن متلوّنة بالحنين، تبثّ واتكينز في حناياها لمسة من الخلود الذي يتخطى الزمن. تقول الرسّامة التي أرادت أن تكون المشاهد جاذبة للناظر: "أكاد أشمّ رائحة كريات النفتالين وبياضات الأسرّة التي عولجت بكميات كبيرة من مسحوق النشاء"، مضيفةً: "أردت أن أولّد انطباعاً لدى الناظر كأنه يفتح الباب المؤدّي إلى هذه الغرف، ويتساءل 
مَن يعيش هناك وكم مضى من الوقت على رقود أحدهم آخر
مرةٍ في السرير".


ليزلوت‭ ‬واتكينز‭ ‬في‭ ‬محترفها‭ ‬في‭ ‬روما‭ 

لطالما كان الفن وسيلة للهروب بالنسبة إلى واتكينز. كان والدها سائق شاحنة وعامل تلحيم، ووالدتها ربّة منزل، وقد وجدت في مكتبة الحي بوابتها إلى الموضة والثقافة خلال مرحلة الطفولة. كانت تمضي أيامها في الرسم، وكان تفكيرها مسكوناً بأحداث فيلم Flashdance لعام 1983. تقول واتكينز التي غادرت في سن المراهقة إلى تكساس للمكوث مع أخت والدتها غير الشقيقة: "كنت متشوّقة جداً للهروب"، وقد وقعت تحت سحر الحياة في الولايات المتحدة. لاحقاً، تسجلت في معهد دالاس للفنون لدراسة الإعلان والرسم التصويري بتشجيعٍ من أستاذها في المدرسة الثانوية الذي لاحظ موهبتها. وبعد عودتها إلى ستوكهولم لفترة وجيزة، انتقلت إلى منهاتن في التسعينيات.

حصلت واتكينز على وظيفتها الأولى بعد لقائها المخرج الفني لدى متاجر Barneys في نيويورك، والذي كلّفها تصميم إعلان مستحضرات التجميل الأسبوعي الخاص بالمتجر، وكان يُنشَر في صحيفة The New York Times. فكانت بداية مسيرة مهنية ناجحة جداً في مجال الرسم التصويري للموضة،
حيث ابتكرت واتكينز رسومها البيانية الخطية بأسلوبها الخاص والتي جسّدت من خلالها المرأة المتحررة لمختلف العلامات التجارية بدءاً من Prada وBritish Vogue وصولاً إلى Mac وMarimekko. تقول واتكينز عن حياتها الإبداعية بين الولايات المتحدة وأوروبا، ومنها مهمة عمل في باريس حيث تعرّفت إلى زوجها: “قادني الرسم التصويري إلى أماكن مختلفة كثيرة. كانت تجربة ممتعة للغاية”.

بدأت وتيرة حياتها فائقة السرعة تسلك مساراً أبطأ بعد ولادة ابنها في ميلانو في عام 2010. تقول: “العيش في إيطاليا يُرغمك على إبطاء الوتيرة. اتّسع وقتي لأجلس وأفكّر وأرسم”. وطبعت هذه المرحلة أيضاً بداية تحوّل في عملها من الرسم التصويري إلى الفنون الجميلة. تقول:
 "في مرحلة معيّنة، أصبح عملي أكثر
تجريداً وتجريباً. توقفت عن العمل لأغراض تجارية وبدأت بالرسم".

بدأت الصحوة الإبداعية بالرسوم التي صممتها واتكينز على القوارير التي كانت تجلبها من الأسواق الشعبية الإيطالية. هذه القوارير المعروفة باسم amphorae باليونانية ومعناها "تُحمَل من الجانبَين" هي عبارة عن جرار من التراكوتا، لها فتحة ضيّقة ومقبضان، تُستخدَم لتخزين النبيذ وزيت الزيتون منذ القِدَم. وكانت واتكينز تنظّفها بعناية قبل أن ترسم على كل واحدة منها نماذج زخرفية وأشكالاً أنثوية تكعيبية. تشرح: "إنها أدوات عملية جداً لا قيمة مالية لها، لكنني وجدت أشكالها لافتة جداً".

صارت هذه القوارير أداةً تستكشف واتكينز من خلالها الثقافة الإيطالية التي وجدت نفسها متوغلة فيها. وكانت أيضاً وسيلة تخوض من خلالها تجربتها الأولى في عالم الفن الزخرفي. تقول: "كانت رسوماً محرَّرة جداً على أغراض ثلاثية الأبعاد. ومثلما حدث مع وارهول، ثمة قاعدة غير مكتوبة مفادها أن الفنان التصويري لا يستطيع أن يكون رسّاماً. كان لديّ خوفٌ من أن يحكم الآخرون عليّ". لكن مخاوفها لم تكن في محلّها، فقد حظي عملها بالتقدير، وبدأت أخيراً بالتعاون مع علامتي Svenskt Tenn وEstablished & Sons التجاريتين المتخصصتين بالتصميم الداخلي، إضافةً إلى إقامتها معرضاً في عام 2019 في Villa San Michele في كابري حيث تواصل العمل. 



واتكينز ترسم على إحدى القوارير من سلسلة Objects of Desire

لكن لعل واتكينز تشتهر على وجه الخصوص بأعمالها التصويرية على اللوحات القماشية حيث تجسّد مشاهداتها عن الحياة اليومية. تُظهر هذه اللوحات أن إيطاليا لا تزال مصدر إلهام كبير لها. تقول واتكينز عن القسم المخصص لسلسلة Mare في معرض ميلزغاردن: “تدهشني قوة البحر في الثقافة الإيطالية. تجلس نساء من أجيال مختلفة يتبادلن الأحاديث ويلعبن الورق ويتناولن الطعام، ويَظهر عليهن جميعاً الارتياح الشديد. يبدو لي المشهد غريباً جداً".

التحرر من الكبت الذي ينكشف في هذا العمل يناقض بشكل حاد نظرة واتكينز إلى جسدها. تقول: “ثمة مفهوم خاطئ مفاده أن الشعب السويدي متحرر جداً في هذا المجال، لكننا لسنا كذلك”. الأعمال الأخيرة من سلسلة Mare التي سيحتضنها محترف ميلز أكثر جرأة وضخامة من الأعمال السابقة في المجموعة. تقول واتكينز عن اللوحات القماشية الكبيرة التي رسمتها بوحيٍ من التناسبات الضخمة في المكان: "إنهن نسائي الكبيرات". تضيف: "ها قد أتت فتياتي وتملّكن الغرفة".


Paura، من عام 2020، من سلسلة Mare التي تستكشف قوة البحر في الثقافة الإيطالية

تعكس رسوم واتكينز، في جوانب كثيرة، الأدوار التقليدية التي تؤدّيها المرأة في المجتمع الإيطالي. وفي ما خلا ابنها ويم، يغيب الرجال عن أعمالها. تقول إن أعمالها ليست تعليقاً سياسياً، بل هي سجل لمشاهداتها الثقافية، إنها عبارة عن ذكريات وحكايات قصيرة، مضيفةً: "كل شيء هنا مقدّس جداً. سواءً تعلّق الأمر بالبياضات أو العائلة أو الطعام، يتمسك الإيطاليون بطقوسهم وروتينهم بأروع طريقة".

في الآونة الأخيرة، تمضي واتكينز، بعد عودتها إلى إيطاليا، أوقاتاً في مزرعة Chianti التي تعود إلى القرن التاسع عشر، والتي عملت مع عائلتها على ترميمها في الأعوام الثلاثة الماضية. تقع المزرعة في تلال توسكانا قرب سيينا، في أرضٍ مزروعة بالزيتون والكرمة، حيث هناك متّسع من المكان لمحترفٍ فسيح داخل مساحة كانت اسطبلاً في السابق. تقول واتكينز: “لا أرغب في العودة إلى المدينة الآن بعدما أمضيت أوقاتاً طويلة داخل المنزل خلال فترة الحجر”. تعمل حالياً على رسم لوحات لمعرضٍ يُقام في غاليري CFHill في ستوكهولم العام المقبل. تتضمن هذه الأعمال جداريات عملاقة، ومزيداً من اللوحات التي تجسّد مشاهداتها عن بلدٍ لا تزال مفتونة به. وعلى الرغم من أنها تبقى دائماً غريبة في إيطاليا كونها سويدية، يمنح فنّها شعوراً بتملّك المكان، فهو يشكّل نافذةً لنظرة واتكينز إلى العالم من خلال عدستها الإيطالية الرومانسية.‭ ‬‬


أقيم معرض Liselotte Watkins’ Italy (إيطاليا بحسب ليزلوت واتكينز) في متحف ميلزغاردن حتى 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021؛ millesgarden.se

0 تعليقات

شارك برأيك