"كانوا يعهدون إليَّ دائماً، مذ كنت يافعة، بإنجاز أي مهمَّة يتلقونها للرسم على قطع الأثاث"، تقول الفنانة البريطانية صوفي كوريندون، التي علّمها والدها وجدّها النقش والرسم حين كانت طفلة. وعندما بلغت السادسة، أضحت تستخدم أدوات مثل الإزميل والمخرطة، قبل أن تبدأ، مراهقة، بترميم رسوم واجهات الساعات وصناديق التخزين.
لطالما كانت الحياة تتمحور حول مشغل والدها نِك كوريندون، نجّار الموبيليا الماهر ومرمّم القطع الأثرية، الذي يرأس الشركة العائلية Coryndon. تروي صوفي: "أتذكّر مجموعة من الأدراج كانت مليئة بالمواد، مثل القشرة الخشبية والجلد غير المدبوغ وقطع من صدفة السلحفاة"، مضيفةً: "كانت كنوزاً بالنسبة إليّ، وقد أردت أن أجمعها وأصنع شيئاً ما بها".

صوفي ونِك كوريندون يعاينان قاعدة مصباح لـ Soane Britain © مورين م إيفنز

نسخة عن حلية مزخرفة من القرن التاسع عشر، مصنوعة بواسطة الحفر على خشب التوليب © مورين م إيفنز
هذه المواد هي ما يستخدم نِك المقيم في ويلتشاير وفريقه، ويضم 14 حرَفياً، لإنجاز قطع أثاث مصممة بحسب الطلب، ومستنسخة عن نماذج تاريخية، مع تخصّص بالأسلوب التيودوري، وبالأثاث الإنكليزي القديم، وتسمّيه صوفي "أثريات المستقبل". جودة العمل اليدوي سمة ابتكاراتهم، وهو أمرٌ يزداد ندرةً في عالم حيث فقدت عبارة نجّار الموبيليا معناها إلى درجة أنّها باتت تُستخدَم للإشارة إلى النجّار العادي الذي يجمع قطع الخشب لصناعة خزائن المطبخ. يشرح نِك، ويستخدم أقلام الرصاص الخاصة بالرسّامين الهندسيين وأقلام Rotring على أوراق رسم كبيرة وسميكة: "كل شيء يُنجَز يدوياً. لهذا يقصدنا الزبائن. يروقهم أن الفكرة تنتقل من الذهن إلى الورق".
الخبرات التي اكتسبتها صوفي على امتداد تجربتها في التدريب والعمل طبعت تطوّر مسيرتها في مجال الفنون، بدءاً من اهتمامها بوضع اللمسات الأخيرة على قطع الأثاث في الشركة العائلية، ومروراً بعملها في رسم الحياة النباتية، إلى أن أصبحت العقل المدبّر خلف النقوش والتجهيزات الرائعة والبالغة التعقيد التي تقوم بتصميمها حالياً. والوقت الذي أمضته في المشغل أثار لديها انبهاراً علمياً بالأسطح. تقول: "كانوا يُحضِرون بارافاناً مطلياً بمادة اللَّك ويجرّدونه من أسطحه لترميمه، فتظهر الطبقات المختلفة والطريقة التي وُضِعت بها للحصول على القطعة بشكلها النهائي".

منحوتة مصباح جداري من الجص بشكل ورقة نخيل © مورين م إيفنز
نتيجةً لذلك، تستلهم صوفي أعمالها الفنية من نجارة الموبيليا والأغراض التاريخية. فقد بدأت، بعد 15 عاماً من العمل في مجال الفنون، بتطعيم أسلوبها الإبداعي بذخيرة استثنائية من التقنيات الزخرفية التي تعلّمتها في المشغل، واختبرت مختلف التقنيات، بدءاً من الطلاء بواسطة اللك الياباني، وتطعيم الخشب، مروراً بالسباكة بالشمع المفقود، والحفر، ووصولاً إلى الشغل بالقلم والذهب. تقول إنها تتطلع، من خلال عملها في المجال الإبداعي، إلى نقل هذه المهارات الحرَفية المترابطة بهدوءٍ وسلاسة إلى القرن الحادي والعشرين، وقد انضم إليها والدها في مسيرتها هذه، حيث يعمل كل منهما في ميدانه الخاص، ويتعاونان حين تكون الفرصة سانحة.
لاحت فرصة مماثلة حين تولت مؤخراً Coryndon تصميم الأثاث في كروسبي هول، المنزل الفسيح الخاص على ضفاف نهر التايمز. يعلّق نِك: "إنه قصر إنكليزي شديد الفخامة من حقبة النهضة، وقد أقام فيه كثيرون، من ريتشارد الثالث إلى كاثرين أراغون. يستغرق إنجاز الأثاث لغرفة واحدة نحو سنتَين إلى ثلاث سنوات". من المكتبات إلى قاعات البلياردو، يُنقَش الأثاث ويُبنى ويُزخرَف بأسلوب مستوحى من حقبة النهضة الإنكليزية، انسجاماً مع مجموعة المالك الكبيرة المؤلّفة من أثاث يعود إلى الحقبة التيودورية وإلى مرحلة حكم الملكة إليزابيث الأولى. شراكة الأب وابنته في المشروع تسير كالتالي: يصنع نِك الأثاث، وتهتم صوفي بالزخرفة، فترسم سلسلة من 20 درعاً تحمل شعارات النبالة الخاصة بشخصيات مرموقة في تلك الحقبة، مثل توماس مور، وسوف تُستخدَم في تزيين جدران القاعة الكبرى.

تصاميم من أزهار أذن الفأر مطليّة بطبقة رقيقة من الذهب، ورسوم من حقبة النهضة، وقصاصات ورق جدران من مجموعة Soane Britain بتوقيع صوفي © مورين م إيفنز
مخلّفات العمل الذي يقومان به مبعثرة في أنحاء حظيرة حوّلتها صوفي إلى مشغل في شرق ساسكس: الأغراض موضوعة على مناضد محاطة بنسخٍ من الأعمال التي تُعلَّق على الجدران والمزخرفة بنقوش نباتية داكنة اللون، كان لها فضل ترسيخ اسم صوفي في عالم الفنون. تنجذب العين إلى عصا خشبية نُقِشت بدقّة شديدة بتصاميم الزهور على منضدة مخصصة للعمل، ما يجعلنا نتساءل ما إذا كانت ستشكّل جزءاً من درابزين السلالم الفسيحة، أو سوف تُستخدَم بمثابة لمسة ختامية تُضفي بريقاً على طاولةٍ توضَع في وسط الغرفة.
في الواقع، انكبّ الأب وابنته على العمل بجهد، كلٌّ في منزله، خلال الجائحة. كانت صوفي قد أطلقت، في وقت سابق هذا العام، مجموعة بالاشتراك مع لولو ليتل لدى Soane Britain، وهي عبارة عن سلسلة من الأقمشة وأوراق الجدران المطبوعة المستوحاة من عشقهما المشترك للأنسجة القديمة، ومنها الأثواب الإكليريكية. ولا شك في أن نِك كان له دوره في المشروع، فقد كُلِّف بالقيام بأعمال الخراطة اليدوية للمجموعة الأصلية من قواعد المصابيح النموذجية Apothecary من خشب التوليب، واستُلهِمت تصاميمها من أواني الصيادلة التي تعود إلى القرنَين الرابع عشر والخامس عشر، وصُنِعت بناءً على الطلب. تنصرف صوفي راهناً إلى إضافة رسوم يدوية بتأنِّ ودقة إلى كل من الإصدارات المحدودة، عبر الاستعانة بستة أنماط نباتية وهندسية.
في الواقع، يمكن أن يتخذ التعاون الميمون بين الوالد وابنته أشكالاً مختلفة. عشق صوفي لتصميم "الألف زهرة"، ويعود إلى القرون الوسطى، وتحديداً إلى سلسلة نجود The Lady and the Unicorn (السيدة ووحيد القرن)، كان وراء العمل الفني Harvest Moon (قمر الحصاد)، وهو واحد من 12 لوحاً كبيراً من خشب الحور في سلسلة 2019 (الألواح أيضاً من صنع نِك)، وقد غُطِّيت الألواح بالكتّان المعالَج بالجبس وزُيِّنت بأزهار وحشرات بريطانية محلية نُحتَت من الطين، بدءاً من الفراولة البرية ونبتة العناقية ووصولاً إلى الفراشات الزرقاء الشائعة، ووُضِعت في قالب من مادة الجسمونايت قبل طليها بطبقة رقيقة من الذهب وتلوينها وتثبيتها بتأنٍّ في مكانها. هذا العمل خير نموذج عن نتاج صوفي الإبداعي المعقّد والمكتنز فكرياً والشديد العناية بالتفاصيل، وعن الدعم الذي يقدّمه لها والدها خلف الكواليس، وبشتّى الطرق.

جسم كروي برونزي مطلي بطبقة رقيقة من الذهب بعنوان Honeymoon (شهر العسل) معلّق فوق لوح محفور من خشب الحور بعنوان Harvest Moon، في الاستديو © مورين م إيفنز
"ما أفعله ليس عملاً حرَفياً بحتاً، ولا تصميماً بحتاً، ولا فناً راقياً فحسب"، تعلّق صوفي، وتشير إلى مشروع آخر لتصميم أثاث منزلي تعمل عليه راهناً، يجمعها أيضاً بوالدها؛ خزانة مدخل صممها Studio Reed، وصنعتها Coryndon، ويجري العمل على زخرفتها بدقّة في أسلوب مستلهَم من خلفية لوحة مذبح بريشة رسّام النهضة فرا أنجليكو. سوف تُزيَّن الخزانة بأزهار ذهبية ناتئة، لكل منها بتلات مصنوعة من الذهب الأبيض، أما الجزء الوسطي من الأزهار فمطليّ بالذهب 23 قيراطاً، بحيث تبدو وكأنها سجادة خيالية من الأزهار البرية والفراشات.
![]() |
![]() |
تشرح صوفي أن التبادل الإبداعي بينها ووالدها يحصل عادةً كالتالي: "أجلب إليه رسماً، فيضع رأسه بين يدَيه، ثم يباشر سريعاً تنفيذ العناصر العملية". وإذا لم تكن الأدوات الضرورية لتحقيق رؤيتها موجودة، يقوم نِك بابتكارها. قدرته على التفكير الجانبي والربط بين الأفكار في عمله هي ما تستعين به صوفي في معظم الأحيان في عملها. تقول: "إذا واجهتُ عائقاً، وهو ما يحدث تكراراً، لديه دائماً طريقته الخاصة لحلّ المشكلة". تضيف: "يملك عقلاً موسوعياً، ويتمتّع ببراعة فائقة في إيجاد حلول للمشكلات على الورق".
ربما يعتبر نِك أن بعض المفاهيم التي تعتمدها صوفي غريبة وصادمة، وأن أذواقها في معظم الأحيان أكثر بساطة وعصرية من أذواقه، إلا أنّه من الواضح أنّها تدفع به نحو الحدود القصوى لقدراته. يعلّق: "أفعل لأجل صوفي أموراً لم أكن لأحلم يوماً بأنها ممكنة. إنها تتمتع بقدرات استثنائية، وعقلها متماسك وصلب مثل طبق البوريدج، فهي لديها دائماً أفكار تتمسّك بتنفيذها، وتحرص على ذلك ولو بعد انقضاء سنوات. إنه عناد آل كوريندون". وهي لا تنوي أن تستكين قريباً، والدليل على ذلك قولها: "يحلو لي أن أفكّر بأنني لم أدفع بك بعد إلى أقصى حدودك".
أبعد من الطابع العملي البحت، إيمان والدها الراسخ بها هو الذي جعلها تواظب في مسارها الإبداعي. تقول: "لم يشكك أبداً في فني، ولم يقل لي بأن أبحث عن عمل حقيقي". العلاقة بينهما قائمة على الإعجاب المتبادل، وتملأ صوفي منزلها بأعمال من توقيع والدها، فيما يمتلئ منزل نِك بأعمال ابنته. وهكذا تتصدّر طاولة المكتب في منزل صوفي منحوتة اليد التي صنعها نِك من الجصّ عندما كان يعمل في النحت في بداية مسيرته المهنية. تقول: "أسمّيها يد القدير، لكنني أجعله يحمل أقلامي عني".