مجلة الرفاهية العصرية تصدرها إيلاف بالاتفاق مع فايننشال تايمز

أناقة

"مستقبلنا في بيروت"

بعد عامٍ على الانفجار الذي دمّر المراكز الفنيّة في المدينة، يلتقي جيل خوري المصممين اللبنانيين الذين يعتبرون أنّ التعافي والجمال لا ينفصمان أبداً

ربيع كيروز مع مجموعته الأخيرة - © بشار سرور ربيع كيروز مع مجموعته الأخيرة - © بشار سرور

"أبدأ بالتعافي حين تبدأ مدينتي بالتعافي"، يقول ربيع كيروز وعيناه تسرحان بعيداً في مياه المتوسط المتلألئة. كان مصمم الأزياء اللبناني في محترفه في الجميزة، على مسافة ميلٍ واحد من مرفأ بيروت، حين هزّ انفجارٌ المدينة في 4 آب (أغسطس) من العام الماضي. الانفجار الناجم عن اشتعال 2750 طناً من نيترات الأمونيوم كانت مخزَّنة في المرفأ بطريقة لا تراعي معايير السلامة العامة منذ عام 2013، أحدث دماراً هائلاً. في جزءٍ من الثانية، دُمِّرت دار الأزياء المملوكة من كيروز والتي عمل على تطويرها خلال الأعوام العشرين الماضية، وأصيب المصمم بجروح بالغة. لا شكّ في أن شخصاً مثل كيروز، المتجذّر بقوّة في هذه المدينة، سيستغرق وقتاً طويلاً كي يبدأ بالتعافي من الصدمة. لكن بالرغم من كل شيء، أعاد المصمم بناء المحترف، حيث التقيناه، وقد أوجد حلولاً مؤقّتة لمواصلة أعماله في لبنان.

الاستمرار في العمل في بلدٍ حيث كل شيء متوقّف عن العمل هو معجزة في حدّ ذاتها. لكن هذه القدرة على الصمود ليست أمراً مفاجئاً. لطالما كان كيروز رائداً في مجاله. في عام 1995، وبعد متابعة تحصيله العلمي في باريس، عاد إلى بيروت، وكانت تُعتبَر آنذاك "مدينة الفرص"، كما يقول. يتابع كيروز: "كانت الحرب قد انتهت قبل بضع سنوات، وكانت هناك نهضةٌ في المشهد الإبداعي بدفعٍ من الرغبة في العمل والإنجاز بكل بساطة". منذ عام 2009، يضع المصمم قدماً في باريس حيث مقرّ أعماله في مجال تصميم الملابس الجاهزة، وأخرى في بيروت، حيث ينكبّ 12 موظفاً على تلبية طلبات العملاء الخاصة. حتى في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، حين بدأت الأزمة الاقتصادية تعصف بالبلاد، لم يكتفِ كيروز بتوظيف جهوده في باريس حصراً، بل شمّر عن ساعدَيه واستكشف طرقاً لتأمين استمرارية أعماله. يقول: "أجد صعوبةً في تفسير الأمر، لكن مهما حدث في لبنان، حين تطأ قدماي أرضه، أشعر برغبة في العطاء والتفاني".


منزل مهجور في الأشرفية، الصورة التقطها جيمس كروين بعد الانفجار في آب (أغسطس) الماضي © جيمس كيروين

بعد الانفجار، شارك كيروز في جمع نحو 400 ألف دولار من خلال صندوق "متحدون من أجل المبدعين اللبنانيين". ساهمت هذه المنظمة في إعادة بناء فضاءات العمل الخاصة ببعض المصممين الشباب في مؤسَّسة Starch، وهي منظمة غير حكومية أسّسها كيروز في عام 2008 بالاشتراك مع تالا حجار لإطلاق المصممين اللبنانيين الناشئين. على المستوى المهني، أعاد كيروز تصميم نموذج الأعمال الخاص به من الصفر: "أكثر ما يهمّني اليوم هو التأقلم مع الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان. قد يُخيَّل إلينا أنه لم يعد هناك أي معنى لعالم الموضة والأزياء، لكنني أفضّل النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة. لماذا لا نستمرّ في تصميم الملابس، فيما نعمل على إرساء منظومة جديدة في التنفيذ تتناسب مع هذه الأزمنة العصيبة وتعبّر عن الاحترام لعملائنا؟"

ليس الترف ضرورةً أولى، لكنه جزءٌ من العجلة الاقتصادية الحيوية في أي مجتمع

صمّم كيروز مجموعات خاصة باستخدام أقمشة مكدّسة في المستودعات، وقد أُنتِجت بالكامل في لبنان وتباع بـ“اللولار" (أي الودائع بالدولار الأميركي في المنظومة المصرفية المنهارة في لبنان، والتي يُمنَع المودعون اللبنانيون من الحصول عليها أو تحويلها إلى الخارج، أو يمكنهم سحبها فقط بالعملة المحلية مقابل سعر صرف متدنٍّ). يقول كيروز إنّ تلك المجموعات من الأزياء "تأخذ في الاعتبار الصعوبات المالية التي يعاني منها العملاء، وتتيح لهم الحصول على أزياء جميلة، وتساهم أيضًا في دعم أسر الموظفين في دار ربيع كيروز"، قبل أن يردف: "لكن ذلك كلّه هو إدارة للأزمة أكثر منه خريطة طريق طويلة الأمد. إنّه مجرّد حلّ للبقاء في بيروت ومساعدتها قدر الإمكان".


ربيع كيروز مع مجموعته الأخيرة © بشار سرور -  BOKJADESIGN@

كيروز واحدٌ من مبدعين كثر عقدوا العزم على مساعدة المدينة على النهوض من جديد. يتبرّع مصمم الأزياء إيلي صعب، الذي يتنقّل أيضاً بين باريس وبيروت، بجزء من مبيعات عطر Le Parfum خلال عام 2021 لبرنامج اليونيسف الخاص بمساعدة الفتيات المهمّشات في لبنان. وقد تبرّعت مجموعة من مصمّمي المجوهرات، بينهم غاييل خوري ونور فارس، بتصاميم لمبادرة أطلقتها متاجر Auverture لجمع التبرعات، وتمكّنت من جمع أكثر من 51 ألف يورو للصليب الأحمر اللبناني وبنك الغذاء اللبناني.
لكن ما يلفت أكثر هو الجهود التي يبذلها المبدعون كي تبقى أعمالهم تنبض حياةً وإلهاماً في ظروفٍ حيث لا يُعتبَر الجمال أولويّة. يقول مصمم المجوهرات سليم مزنّر: "في هذه الأوقات الصعبة، ليس الترف ضرورةً أولى، لكنّه جزءٌ من العجلة الاقتصادية الحيويّة في أيّ مجتمع". يملك مزنّر داراً لتصميم المجوهرات في محلة التباريس التي كانت من الأحياء الأكثر تضرراً جرّاء الانفجار، وقد لحقت أضرار شديدة بمتجره ومحترفه. يعلّق: "يمكنك أن تدمّر الجدران، إنما لا تستطيع أن تغيّر الروح والمعنويات". في مشغله الجديد، تُطالعك عبارة للفيلسوف كانط أُلصِقت على النوافذ: "التفاؤل واجبٌ أخلاقي". قرّر البقاء في لبنان ليس لأن الانتقال يبدو مستحيلاً لوجستياً ومالياً فحسب، إنما أيضاً لأن المدينة تمدّه بمحفّزات إبداعية. يقول: "ستبقى بيروت منبعاً للحكمة والثقافة والحريّة؛ وسوف تسود العدالة والسلام. بيروت هي مدينتي، ونحن المقاومة السلمية الحقيقية. أنا هنا كي أبقى".


سليم مزنّر في المحترف الخاص به
 

من تصميم سليم مزنّر، خاتم مصنوع من الذهب الزهري والماس والتنزانيت، 3650$، وسوار مصنوع من الأحجار نفسها، 13020$، وخاتم مصنوع من الذهب الزهري والماس والرودوليت، 7260$ - BOKJADESIGN@

هذا ينطبق أيضاً على علامة Bokja، المتخصصة في المفروشات والأدوات المنزلية، والتي وسّعت حديثاً أعمالها المميّزة والمتنوّعة لتشمل الملابس الجاهزة، وجميعها تُنتَج محلياً. تقول المؤسِّستان هدى بارودي وماريا هبري: "مستقبلنا في بيروت. ندين بالفضل لفريق الحرَفيين الذي يواصل العمل على تطوير إرثنا المتنامي في الصناعة الحرَفية، ويحافظ على تقليدٍ عريق، وعلى لغةٍ كانت لتضمحلّ لولا ذلك. الحضور القوي على الساحة المحلية أمرٌ أساس. في هذه الأزمنة الصعبة التي تمرّ فيها البلاد، تتعمّق جذورنا أكثر؛ ليست لدينا أي نيّة بالقفز قريباً من المركب".

 

 يعيد حرفيو Bokja خياطة القطع التالفة بما يستحق توقيعهم المميز  BOKJADESIGN@

ثوب Casablanca Bow من Bokja, بسعر 1100$ 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


عرضت Bokja إصلاح البضائع التالفة في المناطق الأكثر تضرراً من الانفجار  BOKJADESIGN@

سارعت بارودي وهبري إلى وضع مهاراتهما في خدمة الناس بعد الانفجار. ترويان: "حوّلنا على الفور صالة العرض إلى مركز مجتمعي، ووضعناه في تصرّف المنظمات المحلية التي كانت تعمل على الأرض وتتولى توزيع المساعدات. ولأن اختصاصنا التصليح والتعديل، عرضنا تصليح الأغراض والمفروشات المنزلية المتضررة وتنجيدها في المناطق الأكثر تضرراً. استخدم فريق الحرَفيين المتخصصين درزةً خاصة بعلامتنا التجارية لخياطة الأجزاء معاً. كان هدفنا بث رسالة أمل من خلال الحفاظ على بقايا المنازل".

حتى المبدعون الأصغر سناً الذين كانوا يواجهون أصلاً صعوبة في تأمين استمرارية أعمالهم في خضم الأزمات المتتالية، شاركوا في إعادة الإعمار. تروي تاتيانا فياض وجوان حايك، مؤسِّستا العلامة التجارية Vanina المتخصصة في الأكسسوارات والملابس، أن متجرهما ومحترفاتهما في الجميّزة دُمِّرت بالكامل، لكنهما باشرتا إعادة إعمار ما تهدّم في اليوم التالي للانفجار. كان شعارهما "لا يمكننا أن نهوي". تتولى السيدتان، وكلتاهما في العقد الثالث، مقاليد مشروعٍ اجتماعي يضمّ شبكة من 70 امرأة حرَفية. تعلّقان: "اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، نحن مصمّمتان على الاستمرار في توسيع علامتنا التجارية على الساحة الدولية، وتطوير شبكتنا الإبداعية المحلية، ودعم الأسرة الحرَفية لدينا".


سينتيا مرهج، المؤسسة والمصممة في دار Renaissance Renaissance
 

لباس من التول والحرير من مجموعة Renaissance Renaissance، السعر عند الاستفسار - © Joyce Sze NG. Styling ومكرم بيطار

في ذلك مؤشّرٌ على مسألة أوسع تتوقّف عندها سينتيا مرهج، المديرة الإبداعية ومؤسِّسة العلامة التجارية المتخصصة بالموضة Renaissance Renaissance: "حين وقع الانفجار، اضطررتُ إلى الانتقال إلى باريس، لاستحالة أن أواصل العمل في بيروت، مع انهيار المنظومة المصرفية ودمار البنى التحتية". من العاصمة الفرنسية، أطلقت مرهج مبادرة بعنوان GoFundMe لتمويل ثلاثة مشاريع إبداعية في بيروت كانت تعلم أنها لن تكون مشمولة بجهود التعافي. تقول: "بالنسبة إلي، كان من المهم جداً مساعدة هؤلاء المبدعين ومالكي المشاريع، لأنني لا أرى أي مستقبل لبلادنا من دون وجود مبدعين ومن دون مساهماتهم في هذا المجال. لقد تمكّنا من جمع 50 ألف يورو ووزّعنا الأموال بالتساوي على المتلقّين الثلاثة. هذه كانت الطريقة الأسرع لجمع الأموال وتوزيعها عليهم، علماً بأن الإجراءات كانت صعبة جداً بسبب المشكلات مع المصارف".

لكن مرهج متمسّكة بقدر المصممين الأكبر سناً بالحفاظ على جذورها في لبنان، مهما كان الثمن. تقول: "أحتفظ بمحترفي في بيروت، وسوف أتمكّن وأخيراً من السفر إلى هناك هذا الصيف للعمل على التطوير الإبداعي“. تضيف: "من المهم بالنسبة إليّ أن نستمرّ في البحث عن طرقٍ لدعم اقتصاد الموضة المحلي هناك. آمل بأن أتمكّن، عند انتهاء الجائحة، من التنقّل أكثر بين باريس وبيروت".


الواجهة الأمامية لقصر في شارع سرسق، بيروت © جيمس كروين

هذا العام، وصلت العلامة التجارية المملوكة من مرهج Renaissance Renaissance إلى نصف النهائيات في LVMH Prize. وهذا إثباتٌ، إن كان ثمة حاجة إلى إثبات، على أن "حرّاس الموضة الشباب" والشجعان سوف ينجحون دائماً، ولو من وراء البحار، وبالرغم من كل العوائق، في إبقاء بلادهم على الخارطة. وهم يبثّون الأمل بأن لبنان سيكون له مستقبل، وسيكون مستقبلاً أكثر إشراقاً إلى حدّ كبير.

شارك برأيك

0 تعليقات